ظهر الإسلام قبل 1437 سنة، لذا فهو ليس بجديد. ومع إقرارنا بأن التاريخ الإسلامي هو تاريخ دموي في معظمه، إلا أن العنف كان ميزة الحضارة الإنسانية منذ البدء، وحتى الآن إلى حد ما. فالتهديد باستخدام القوة العسكرية ما زال مطبقًا بين الدول؛ لذا فالعنف ميزة المجتمعات الإنسانية، لا تقتصر على دين أو عرق، ولم تخل حضارة من استخدام القوة، مهما كانت متقدمة. وما زالت الحروب تحيط بنا من كل جانب. وقد عرف العالم الإسلام ودرسَه وعايشه. وبالمقابل، تعلم المسلمون أدوات الحضارة وأخذوا بها، ساعدهم في ذلك وجود قوميات وأقليات أخرى إلى جانبهم ساهمت بشكل كبير في بناء الحضارة العربية والإسلامية. ولا يستطيع أي مسلم أن ينكر دور المسيحيين في الحضارة العربية؛ لا بل إن أوائل الكتّاب والصحافيين والمترجمين والفنانين كانوا من تلك القوميات والأقليات.
إلا أن الانحدار بدأ شديدًا وواضحًا في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة بعد رحيل الاستعمار، وحصول العديد من الدول على استقلالها. ونظرة سريعة إلى الوراء لوقت قريب تبين الفرق الحضاري الهائل بين الأمس واليوم. وتملأ صفحات مواقع التواصل الاجتماعي صورًا تبين هذا الفرق الهائل بين حقبتين قريبتين في عدد من الدول العربية والإسلامية حصرًا، مثل أفغانستان، وإيران، والعراق، وسوريا، وغيرها؛ مما يجعلك تدرك أن الإسلام السياسي أمر محدّث منذ عهد قريب لا يتجاوز مئة سنة تقريبًا.
حلم الخلافة
بدأت الحكاية أيام مفاوضات البريطانيين مع الشريف حسين، جرى خلالها تبادل الأفكار عبر مجموعة مراسلات عرفت بين الشريف حسين شريف مكة، وهنري مكماهون المعتمد البريطاني في القاهرة (1915- 1916) والتي عرفت بمراسلات حسين- مكماهون. فقد أدرك البريطانيون بحذقهم أن المسلمين العرب ستبقى عيونهم ترنو لإقامة الدولة الإسلامية دومًا. وحتى الشريف حسين، الذي وقف معهم لإسقاط الخلافة الإسلامية التركية، كان يحلم بإقامة تلك الدولة بشكل أو بآخر، وقد دغدغت بريطانيا ذلك الشعور، فتضمنت تلك الرسائل اعتراف بريطانيا بآسيا العربية كاملة دولة مستقلة، إذا شارك العرب في الحرب ضد الدولة العثمانية، وهذا ما عرف فيما بعد بالثورة العربية الكبرى. وانطلق القوميون لاستعادة عروبتهم طيلة قرن كامل. وظَل البريطانيون يماطلون في تحقيق ما وعدوا به؛ مما دفع الشريف حسين إلى إعلان نفسه خليفة، في عمان عام 1922، وعاد إلى مكة محمّلًا بلقب أمير المؤمنين؛ مما أثار حفيظة البريطانيين، ودفعهم لتحريك خصمه ابن سعود ليستولي على الحجاز، ويقيم دولة إسلامية شرط أن لا تكون خلافة، ألا وهي المملكة السعودية ليحكمها هو من يخلفه إلى يومنا هذا.
ولقد أدرك البريطانيون والفرنسيون تمامًا أن العرب المسلمين لن يسكتوا طويلًا، وأن الغرب سيتحمل تكاليف باهظة في هذا الصراع، فجمعوا من كل أقطار الأرض أفرادًا من اليهود باعتبارهم أمة مُضطَهَدة، وشعب بلا أرض، ليصبحوا طرفًا في هذا الصراع، ويشغلوا بال العرب لقرن كامل بما عرف بالصراع العربي- الإسرائيلي، إلا أن حلم الخلافة ظلّ قائمًا.
وبعد إعلان تركيا إلغاء نظام الخلافة رسميًّا عام 1924 بأربع سنوات، أنشأ حسن البنا حركة الإخوان المسلمين في مصر، وبلغ عدد أعضائها ربع مليون شخص في السنة الأولى. وقد أوضحت الوثائق البريطانية التي كشف عنها مؤخرًا، أن بريطانيا قد دعمتها ودأبت على تقديم تمويلات مالية منتظمة لها، بحسب ما نشره مارك كيرتس في كتابه «العلاقات السرية تواطؤ بريطانيا مع الإسلام المتشدد» عام 2010.
الدور الغربي في نشأة الإسلام السياسي
كان خروج الدول الاستعمارية، كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، المُذّل من مصر والعراق وسوريا والجزائر والدول الأخرى أمرًا لا يمكن غفرانه من وجهة نظرهم، معتقدين أن العرب قد تنكروا لهم جميلهم معهم، وما زال الغربيون يفهمون الاستعمار على أنه تعمير، في حين يفهمه العرب على أنه سرقة لثرواتهم الطبيعية وغيرها. فالدول الغربية التي حركت مشاعر العرب القومية مطلع القرن الماضي، تفاجأت بنهضتهم الحقيقية، فعادت تبحث عن عامل آخر لكبح جماح هذه النهضة، فوجدت في الإسلام السياسي ضالتها المنشودة في حصان طروادة التاريخي الموعود. وكانت خبرة بريطانيا في هذا المجال سباقة، حيث مارستها في الهند منذ ثلاثة قرون، وكانت سببًا لتقسيم شبه الجزيرة الهندية إلى الهند وباكستان، وفقًا للعامل الديني عام 1947.
وإذا كان الغرب قد استخدموا أسلوب المواجهة المباشرة قبل ألف عام في صراعهم مع المسلمين، وأدركوا فشله وجسامة تكاليفه، إلا أنهم ابتكروا في هذه المرة أسلوب التفجير من الداخل، أو الحروب بالنيابة. فأسلوب التحريض أصبح واضحًا ومعروفًا في السياسة الغربية، مع وجود بيئة عربية وإسلامية ملائمة، في ظل انتهاك لحقوق الأفراد والجماعات بشكل منهجي ومستمر.
ولو تتبعنا نشأة الحركات الإسلامية وتاريخ قادتها، لوجدنا الأثر الغربي واضحًا رغم كل السرية والتمويه. ولقد ظلّت بريطانيا وما زالت راعية للإسلام السياسي، وهي تحتضن اليوم مقرات لمعظم الحركات الإسلامية، فيما رأت فيهم الولايات المتحدة ورقة رابحة يمكن استثمارها لاحقًا. وهكذا ظهرت حركات عديدة من قبيل تنظيم القاعدة، وجماعة العدل والإحسان، ومؤتمر الأمة، وتنظيم الدولة الإسلامية، وحركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، وأنصار الشريعة، وحركة تنفيذ الشريعة المحمدية، ومجلس الخلافة، وتنظيم التجديد الإسلامي، وحزب التحرير، إضافة لتسميات عديدة لأذرع عسكرية لهذه الحركات. ومن جانب آخر فقد أنشأت إيران ومجموعات شيعية مختلفة في عدد من دول العالم، حركات وأحزاب شيعية مماثلة، مثل حزب الدعوة الإسلامية، والمجلس الإسلامي الأعلى، والتيار الصدري، وحزب الله، وغيرها. وكانت لهذه الأحزاب أيضًا أذرع عسكرية مثل قوات بدر، وجيش الإمام المهدي، ولواء أبي الفضل العباس، وغيرها.
وعلى غرار ذلك، احتضنت فرنسا الخميني وأتباعه، لتعيده بعد أربع سنوات على متن طائرة فرنسية لإقامة الدولة الإسلامية على غرار الخلافة، وفقًا للمذهب الشيعي، الذي يرى أن الخليفة عنده هو «الإمام»، ولا يشترط أن يكون حاكمًا. وما زالت ولاية الفقيه مستمرة في إيران منذ 1979 وحتى الآن. وما حروب الخليج الثلاثة إلا نتيجة للصراع السني- الشيعي، وإن كانت الأسباب المعلنة غير ذلك.
وقد وجدت الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الصراع خير وسيلة لابتزاز دول الخليج النفطية الغنية، وفي مقدمتها السعودية والكويت، عن طريق إدامة شبح التهديد الوهمي. فتحملت دول الخليج تلك، نفقات الحرب العراقية الإيرانية طيلة ثماني سنوات (1980- 1988)، ثم عادت فتحملت السعودية نفقات حرب الخليج الثانية عام 1991 (حرب تحرير الكويت)، لمجرد ألا تتمكن المجموعات الشيعية المسلحة من السيطرة على حكم العراق، حتى أصبحت عاجزة ثم مدينة اقتصاديًّا؛ مما دفعها إلى التخلي واللامبالاة في المرة الثانية عام 2003، بعد أن أدركت اللعبة، ورفضت تقديم أموال مقابل حكم مذهبي. فبدَت وكأنها غير معنية بما يحصل، وقررت الاحتفاظ بأموالها، ومقاطعة الحكم الشيعي في العراق. ولم تفتح سفارتها في بغداد أواخر عام 2015، بعد قطيعة دامت 25 عامًا.
وكان أخطر ما فعلته هذه الحركات الإسلامية، هو تخطي الحدود الدولية وعدم الاعتراف بها، وهو ما أسقط ابتداءً مفهوم سيادة الدول. فالجماعات السنية والشيعية تقاتل خارج حدودها في كثير من الأحيان.
وبإقامة حكم الشيعة في العراق عام 2005، سقط العراق بيد إيران، وانتشر لهيب الصراع الديني والطائفي إلى دول عربية عديدة في حملة عرفت بالفوضى الخلاقة عام 2011، ساهمت إيران بشكل كبير في تأجيج هذا الصراع، من خلال تدخلها في لبنان وسوريا واليمن والبحرين وفلسطين، بالإضافة إلى العراق، معتمدة أسلوب تصدير الثورة الإسلامية، وإقامة الكيان الشيعي العابر للحدود الدولية المعترف بها، وهكذا أصبح تدفق المقاتلين من العراق إلى سوريا أمرًا طبيعيًّا؛ مما حدا بدول إقليمية أخرى مثل تركيا والسعودية وقطر إلى نفس التطبيق بفلسفة مختلفة.
الأثر الاقتصادي للإسلام السياسي
إلا أن فصول المسرحية لم تكن قد اكتملت بعد تمامًا، فمن المؤكد أن المقصود هو ثرواتهم أولًا، دون المبالاة بمذهب من يحكمهم، وإن الخراب هو ما يسعون إليه، لأن السياسة الغربية يمكن تلخيصها بعبارة «انتزع أمواله ثم تخلص منه». وتساعدهم في ذلك جملة عوامل طبيعية، منها تمسك الحكام بمناصبهم حتى لو اقتضى الأمر التضحية بمصالح الجماعة، وإن المسلم يمكن التعامل معه بشكل منفرد، وقابليته للخيانة مشهود بها، في ظل غياب قانون ومؤسسات تعزز روح المواطنة، وتعاقب على الخيانة. كما أن التفرقة تساعد في تحقيق ذلك وفق مبدأ «فرق ثم احكم» المعروف بفرق تسد.
وكان لا بد من تحريك اللامبالاة السعودية، بالتقرب إلى إيران تارة، وإلى السعودية تارة أخرى، على أمل البحث عن الضحية القادمة، التي لم تكن ملامحها قد اتضحت بعد. وعلى هذا المنوال سارت مفاوضات الاتفاق النووي، لحين ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، بعد انتزاعه مدينة الموصل ثاني أكبر المدن العراقية في يونيو/ حزيران 2014.
وسارعت الولايات المتحدة إلى إنشاء تحالف دولي مكون من أكثر من عشرين دولة لمحاربة داعش، وقدرت كلفة الحرب 500 مليار دولار للقضاء على مقاتلي تنظيم الدولة الذين قدّر عددهم بين 25- 30 ألف شخص، أي أن تكلفة قتل كل إرهابي هي أكثر من 20 مليون دولار في الوقت الذي يكلف تجنيده 20 ألف دولار. وبلغت تكاليف الحرب حتى أواخر عام 2016، وفقًا للتقديرات الأمريكية أكثر من عشرة مليارات دولار، وبمعدل 12 مليون دولار يوميًّا، أو 5200 دولار في الدقيقة، أو تقريبًا 87 دولارًا بالثانية.
إن نفقات الحرب الباهظة تعطي تفسيرًا عن سبب انحصار في مناطق الشرق الأوسط، وتحديدًا في منطقة الخليج الغنية بالنفط. ويمكن إعطاء تصور لذلك:
– تكاليف الحرب العراقية- الإيرانية (حرب الخليج الأولى) 1000 مليار دولار.
– تكاليف حرب تحرير الكويت (حرب الخليج الثانية) 620 مليار دولار.
– تكاليف حرب إسقاط نظام صدام (حرب الخليج الثالثة) 3 تريليونات دولار.
– تكاليف حرب القضاء على داعش (الحرب على الإرهاب) 10.2 مليارات دولار.
– تكاليف الحرب في سوريا 800 مليار دولار.
– تكاليف الحرب على اليمن 38.7 مليار دولار.
– تكاليف الحرب الليبية 240 مليار دولار.
إن هذه الأرقام المهولة كانت قادرة على تحقيق الرفاهية لكل سكان المعمورة.
وإن مما يثير الدهشة والاستغراب، إن أحد أسباب غزو الكويت، هي مطالبة صدام للكويت بتقديم عشرة مليارات دولار كمساعدة، وإلغاء ديون الحرب العراقية- الإيرانية والتي تقدر بعشرة مليارات أخرى، بالإضافة إلى مليارين وأربعمائة دولار تعويضًا عن النفط المسروق من حقل الرميلة، أي ما مجموعه (22,4) مليار دولار. في حين أشارت بعض تقارير صندوق النقد الدولي إلى أن ديون تلك الحرب قد بلغت 60 مليار دولار. ويمكن المقارنة بينها وبين تكاليف حرب تحرير الكويت بعد غزوها، والتي بلغت 620 مليار دولار. وهي لا تشكل في كل الأحوال نسبة تتراوح بين 2- 9% منها.
وربما أدركت الكويت والسعودية وباقي دول الخليج، أن صدام، كان أرخص شرطي في المنطقة.
وقد ظلت الأمور تسير في منحى تصاعدي مضطرد، إلا أن حادثتين غيرتا مسيرة الإسلام السياسي إلى جانب حوادث أخرى كثيرة، ألا وهما:
الأولى: ضرب صحافي عراقي للرئيس الأمريكي جورج بوش بالحذاء، أثناء زيارته للعراق أواخر عام 2008، مما نبّه الأذهان إلى حجم الاحتقان الذي يسود المسلمين والعرب من حجم الدمار الذي حصل في العراق، وهي سابقة خطيرة هزت الولايات المتحدة نفسيًّا بشكل غير متوقع.
وهنا وجدت الولايات المتحدة نفسها ملزمة بتجميل صورتها أمام العالم. فأفرزت انتخابات 2009 عن صعود أول رئيس أسود من أصول أفريقية مسلمة إلى البيت الأبيض. كما أن ضم منافسته الرئاسية الخاسرة هيلاري كلينتون إلى تشكيلة حكومته وتكليفها بوزارة الخارجية، وهي المعروفة بمكيافيلليتها، إضافة إلى نائب الرئيس جو بايدن صاحب مشروع تقسيم العراق، فاكتمل طاقم ميّال إلى دعم الإسلام السياسي عبر رئيس من جذور مسلمة، ونائب يسعى لتفتيت العراق، ووزيرة خارجية مكيافيللية. وقد اعتقد أوباما أول الأمر أن الإسلام قد فتح الولايات المتحدة، كما فتح الإسلام الممالك القديمة، لذا نراه يوم ترديد القسم أعلن على الملأ بأنه باراك حسين أوباما، مذكرًا باسم والده الإسلامي؛ مما دفع مجلس الشيوخ إلى طلب إعادة ترديده للقسم في اليوم التالي لوجود خطأ. ثم في أول زيارة له للشرق الأوسط زار القاهرة، وألقى خطابًا حماسيًّا في جامعة القاهرة في يونيو/ حزيران 2009. إلا الأحداث اللاحقة أثبتت خضوعه للدولة العميق في أمريكا.
وظلّ الإسلام السياسي يتصاعد ويتمدد في سوريا بشكل ينذر بكارثة، إثر ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام، الأكثر طموحًا والأشد خطورة من كل ما سبقه من تنظيمات كالقاعدة، وجبهة النصرة، وغيرها، خاصة إذا علمنا أن زعيم التنظيم والخلافة فيما بعد كان سجينًا لدى القوات الأمريكية في سجن بوكا بالعراق، قد جرى إطلاق سراحه عام 2009، أي بعد أستلام أوباما للرئاسة.
كانت الأمور تسير حسنًا، وفقًا لما هو مخطط لها، وبدأ نجم تنظيم الدولة يسطع منذ 2010، وبدت مسألة تحويل الحلم الإسلامي في الخلافة إلى كابوس يجري استثماره بشكل رائع من الناحيتين الاقتصادية والسياسية، وخاصة بعد وصول أعرق الحركات الإسلامية للسلطة في مصر، وكاد المشروع أن يطبق على الأرض، والمتمثل بإقامة الخلافة الإسلامية في بلاد المسلمين من سيناء إلى تركيا والسعودية. إلا أن الحادثة الثانية لم تكن في الحسبان.
الثانية: انتزاع السلطة من يد الإخوان المسلمين في مصر في 3 يوليو 2013؛ إذ قام الجيش المصري بانقلاب عسكري تحت قيادة عبد الفتاح السيسي، وعزل الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، باعتراف هيلاري كلينتون في مذكراتها خيارات صعبة.
وهنا أسقط في الأمريكان حلم تفجير المنطقة من الداخل ككل، ليصل سعر البرميل إلى عشرة دولارات، ولتقوم دولة الخلافة الإسلامية بذبح المسلمين تخفيفًا لأعباء إسرائيل بهذا الصدد. ومع كل ذلك، فبعد انقلاب الجيش المصري بسنة واحدة احتلت داعش مدينة الموصل التاريخية، ثاني أكبر المدن العراقية، بطريقة سهلة جدًّا، توحي بوجود أوامر عليا لتسليمها إلى هذا التنظيم. فهوت أسعار النفط العالمية من 110 دولارات للبرميل الواحد إلى 58 دولارًا، حيث دخلت المنظمات الإرهابية سوق تصدير النفط.
لقد كانت داعش، وهو الاسم المختصر لتنظيم الدولة، ورقة الجوكر التي أغرت كل الأطراف الدولية والإقليمية والداخلية للعراق للعب بها، فالشيعة أرادوا من خلالها معاقبة السنة في العراق، والأكراد أرادوها وسيلة للاستحواذ على أراضٍ أكثر لإقامة الدولة الكردية الموعودة، ورأت فيها تركيا والسعودية وقطر أفضل سلاح لمعاقبة الحكم الشيعي في العراق، وإيران. ورأت فيها إسرائيل أفضل معول حاد ونشط لتدمير بقايا الحضارة الآشورية وآثارها، التي تظل التوراة تذكرهم باضطهادهم، وتدمير مملكة يهوذا القديمة، وسبي شعبها عام 586 ق.م.
ولقد لعبت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون دورًا كبيرًا في صعود الإسلام السياسي المتشدد، معتقدة أنها بذلك تعبد الطريق إلى حلم الرئاسة الذي خسرته. إلا أن تسريباتها بدعم الولايات المتحدة للإسلام السياسي المتشدد أضرها كثيرًا، وخاصة في جلسة استماع الكونغرس الأمريكي عن حادثة مقتل طاقم السفارة الأمريكية في بنغازي عام 2012، وكررت ذلك ثانية في مذكراتها عام 2014، وكانت سببًا رئيسيًّا لخسارتها في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2017.
وظلت إدارة أوباما وطيلة ثماني سنوات من حكمه، تدعم الإسلام السياسي المتشدد بشكل خفي، وأبدى عن قصد، أو غير قصد عبر وزير خارجيته جون كيري موقفًا مرنًا مع إيران أثناء محادثات الاتفاق النووي، بحيث بدت إيران هي المنتصرة عند توقيعه في 15 يوليو/ تموز 2015، وهو الاتفاق الذي عارضه كل الأمريكيين، وقد عاونه في ذلك أركان طاقمه بايدن وكيري وكلينتون. والأكثر من ذلك، فقد أعلن أوباما صراحة رفضه إرسال قوات أمريكية للعراق عند احتلال داعش للموصل صيف عام 2014، على الرغم من وجود اتفاقية أمنية بين العراق، والولايات المتحدة عام 2009.
بعد أن ساهم الجميع بخلق الإسلام السياسي، والاستمتاع بنتائجه الكارثية، تحول فجأة إلى كرة نار يتقاذفها أحدهم على الآخر. فقد نسي قادة الغرب أن العالم اليوم، وفي ظل العولمة قد أصبح قرية صغيرة، وأن ما يحدث في أي بقعة من بقاع الأرض، سيظهر أثره في البقاع الأخرى عاجلًا أم آجلًا، إن إشعال النار في بيت الجيران، لن يضمن عدم تسرب النار إلى بيتك.
وهكذا سرعان ما بدأ تأثير الإسلام السياسي المتشدد ينتشر في معظم دول العالم، فزحفت موجات اللاجئين المليونية إلى كل أرجاء العالم، وضرب الإرهاب دولًا كانت إلى حد قريب جدًّا تساعد حركات الإسلام السياسي المتطرف، لمصالحها الخاصة. وهكذا ضرب الإرهاب فرنسا وتركيا وبلجيكا وألمانيا، وحتى أمريكا.
إدارة جديدة أم نهاية عهد
كان موضوع الإرهاب والحركات الإسلامية المتشددة أحد أبرز محاور الحملة الانتخابية لرئاسة الولايات المتحدة عام 2016؛ بل إن هذا المحور كان السبب الرئيسي لخسارة المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وظلّ منافسها الجمهوري دونالد ترامب يردد عبارة أن أوباما وكلينتون هم من خلقوا داعش. وعلى الرغم من كثرة أخطائه الشخصية، وتصرفاته الطائشة، وعدم كفاءته السياسية، إلا أنه بدا في نظر العالم أجمع بمثابة حَمل وديع إلى جانب هيلاري رغم كل مهاراتها الدبلوماسية.
إن شعورًا عامًا قد تولد في العالم أجمع، بأن الإسلام السياسي المتشدد هو أسوأ اختراعات البشر في تاريخه الطويل، وهو يعيد البشرية إلى العصور المظلمة، وشريعة الغاب. ومن جانب آخر، فقد حقق هذا الاختراع غاياته المتوخاة، فدمر معظم دول الشرق الأوسط، وبدد ثرواتها، وحطم صناعتها، وجعلها مدينة للمؤسسات المالية الكبرى، وغدت عروشها خاوية بعد أن مزق الإرهاب شعوبها وفرقها.
إن نظرة سريعة على فوز الرئيس المنتخب ترامب، يجعلنا ندرك أن مرحلة الإسلام السياسي قد شارفت على الانتهاء. وهذا لا يعني بالضرورة نهاية الإسلام كدين عبادة، بل سيبقى حاله حال الأديان الأخرى، ولكنه سيكون مقيدًا بعد كبح جماحه نحو إعادة بناء دولة الخلافة الإسلامية؛ مما يدفع بالتالي شعوب المنطقة إلى نظام الدولة المدنية، القائم على مبدأ الفصل بين الدين والدولة.
إن من أهم العوامل التي ساعدت على فوز ترامب هي:
1. دور الكنيسة، فقد لعبت الكنيسة دورًا كبيرًا في فوز ترامب، على الرغم من التشنج الأولي الذي ظهر في انتقاد البابا لموقف ترامب من بناء جدار على حدود المكسيك، ورغبته في طرد اللاجئين والمهاجرين، قائلًا: بأن من يقول بذلك، لا يمكن أن يكون مسيحيًّا. إلا أن رسالة الفاتيكان قبل موعد الانتخابات بثلاثة أيام شكّلت ضربة موجعة لكل من عوّل على الإسلام السياسي المتشدد للوصول إلى البيت الأبيض. وقد التفت كل الكنائس الأمريكية حوله، وفي مقدمتها الكنيسة الإنجيلية، حتى اعتبره البعض بأنه يؤسس لأممية اليمين الديني المسيحي. وعلى الرغم من نفي الفاتيكان لبعض من تلك الأخبار الكاذبة، إلا أن الإحصائيات دلّت على أن 60% من الإنجيليين، و52% من الكاثوليك، قد صوّتوا لصالح ترامب.
2. روسيا، لقد لعبت روسيا دورًا كبيرًا في فوز ترامب الذي رأت فيه رجل أعمال بلا خبرة سياسية، ويتسم بالبساطة والصراحة، والصدق في التعامل، الذي يمكن التعامل معه بعيدًا عن الخداع وألاعيب السياسة. وعلى الرغم من كل الشبهات التي أثيرت حول دور موسكو في فوز ترامب، إلا أن ذلك لم يثبت تمامًا.
3. مكتب التحقيقات الفيدرالي، الذي أرسل مديره على حين غرة رسالة إلى الكونغرس يخبره بنيته في إعادة فتح التحقيق في قضية البريد الإلكتروني لكلينتون، قبل عدة أيام من موعد الانتخابات.
4. الاختلاف الكبير في فلسفة الحزبين المتنافسين. فالحزب الجمهوري هو على شاكلة الأحزاب العقائدية العربية من حيث انضباط وتماسك أعضائه، إذ إن معظمهم من المتدينين الذين يصوتون لمرشحهم بغض النظر عن مواقفه. وعلى خلاف ذلك، فإن الحزب الديمقراطي يضم أعضاء متحررين فكريًّا، ويصعب إقناعهم بسهولة. ولا ينظرون إلى الدين كمرجع فكري.
5. الأخلاق، إن التصدع الكبير الذي أصاب الأخلاق في الولايات المتحدة، وخاصة في السنوات الأخيرة من عهد أوباما الذي يبدو أنه احتفظ بها في بيته، فيما طبق العكس على الولايات المتحدة، وخاصة توقيعه لقانون زواج المثليين الجنسيين عام 2015، وتقنين الإجهاض، وتقنين مخدرات الماريغوانا، وحيازة الأسلحة. ورغم كل القبول الأمريكي الظاهر، إلا أن الشعب كان يشعر أن هذا الأمريكي الأسود من أصول مسلمة لن يصير مسيحيًّا حقيقيًّا مهما حاول إجادة تمثيل هذا الدور، وكشفت أيامه الأخيرة حقيقة ذلك، في طرد 35 دبلوماسيًّا روسيًّا، والدور السلبي في صدور قرار ضد إسرائيل في الأمم المتحدة حول المستوطنات، ورفع العقوبات الجزئية عن السودان، وإعادة معتقلي غوانتنامو إلى دولهم، ومنح نفسه ونائبه أوسمة الحرية، وغير ذلك؛ لذا شعر الأمريكيون البيض أن سيطرة الرجل الأبيض في خطر، وأن شعورًا عامًا بدأ يسود وهو أن السلطة قد تسربت من أيديهم. وربما كان الديمقراطيون سيفوزون لو قدموا بيرني ساندرز العجوز الذي قدم مشروعًا قائمًا على العودة للأخلاق؛ لأنه كان سيبدو أكثر قبولًا أمام ترامب الطائش؛ لا بل إن الكثيرين امتنعوا عن التصويت لصالح كلينتون نظرًا لتصويتها لصالح الحرب في العراق.
6. الاتحاد، الذي لم يعد كما أراده مؤسسوه مثل واشنطن ولينكولن وآخرون. لهذا جاء شعار حملة ترامب مدغدغًا لشعور معظم الأمريكيين في عودة أمريكا عظيمة مرة أخرى، كما كانت في بداية تأسيسها، اتحادًا لعموم الشعب، وليس لمجموعة النخبة الصغيرة أمثال كلينتون التي تبحث عن الثراء، في حين أعلن ترامب عدم رغبته في استلام مرتب الرئاسة.
7. فريق ترامب المسيحي الشرقي، وعلى عكس كلينتون التي اعتمدت على هوما عابدين، وهي أمريكية من أصل سعودي لتكون سكرتيرتها المقربة إليها، ولتثير مجموعة فضائح حول علاقتهما الجنسية، وبعد ذلك وجود رسائل سرية لكلينتون في حاسوب زوج هوما. فإن فريق ترامب ضّم مجموعة من المسيحيين الشرقيين المعروفين، من أمثال اللبناني الدكتور وليد فارس، والسوري الدكتور غابرييل صوما، ثم ألحقهما أخيرًا بالمصرية دينا حبيب. وهكذا نجد أن فريق ترامب يضُم مسيحيين شرقيين، ولهم توجهات مسيحية معروفة.
ملامح المرحلة القادمة
سيؤدي ترامب بعد ساعات القسم ليصبح الرئيس 45 في سلسلة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية لمرحلة جديدة من أبرز ملامحها التغير الكبير في سياسة الولايات المتحدة تجاه الإسلام السياسي المتشدد، وكانت ملامح ذلك قد ظهرت فيما يلي:
1. انتقاد ترامب للإسلام السياسي المتشدد، وفي مقدمته تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي ركّز على اتهام منافسته كلينتون والرئيس سابقًا أوباما بأنهما من خلقا داعش.
2. لقاؤه بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أثناء افتتاح الجمعية العامة للأمم المتحدة في تشرين الثاني/ أكتوبر 2016، وتقارب وجهات نظرهما حول الإخوان المسلمين.
3. النظر إلى الاتفاق النووي الإيراني على أنه اتفاق غير متكافئ، ويجب على الأقل تعديله إذا تعذر إلغاؤه.
4. تقارب وجهات النظر بين ترامب والرئيس الروسي بوتين حول إقامة علاقات بناءة بينهما بدلًا من الصراع.
5. إرسال رسائل مشجعة ومطمئنة لإسرائيل بأن عليهم أن يصبروا حتى يوم توليه السلطة رسميًّا.
6. تشكيلة فريق حملة ترامب الانتخابية الذي يضم مسيحيين شرقيين معروفين بميولهم المسيحية.
7. إعداد مشروعين لتقديمهما للكونغرس باعتبار حركة الإخوان المسلمين، والجيش الثوري الإيراني منظمات إرهابية.
8. التقارب مع الكنيسة بمختلف مذاهبها سواء الكاثوليكية، أو الإنجيلية.
9. اعتبار قرار غزو العراق عام 2003، أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة، وهو الذي قاد إلى صعود الأحزاب الإسلامية المتشددة، سواء الشيعية أو السنية منها، وأطلق يد إيران في العراق، وبعض دول المنطقة.
وهذا ما دفع كيري، وزير الخارجية الأمريكي السابق، ليصرح في آخر أيام ولايته، بأن نوري المالكي رئيس الوزراء العراقي السابق، عمل على تشكيل ميليشيات طائفية، الأمر الذي أضعف القوات الحكومية، مما تسبب بتمدد تنظيم داعش. فردّ عليه المالكي بالقول، إن تنظيم داعش كان صنيعة إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما، والتي تسببت في إراقة الدماء في العراق وسوريا واليمن.
إن هذه الملامح والكثير غيرها، تُشير ضمنًا إلى أن مرحلة الإسلام السياسي قد شارفت على الانتهاء، وإن اندحارها مسألة وقت ليس إلا، بعد أن أثبتت فشلها الذريع أينما حلت. وإن غدًا لناظره لقريب.