الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

تعليق على قرار المحكمة الإتحادية العليا


حتمية التغيير في العراق

(تعليق على قرار المحكمة الإتحادية العليا حول الطعن على قانون التعديل الثالث لقانون الانتخابات)



         
                                               

                                                                                                                                               د. رياض السندي

                                                                                                                                                                                          دكتوراه في القانون   

-      مقدمة

تعد المحكمة الإتحادية العليا المحكمة الاتحادية العليا أعلى محكمة في العراق، تختص في الفصل في النزاعات الدستورية. أنشئت بقانون رقم (30) لسنة 2005، الصادر في 24 شباط 2005 استنادا للمادة 44 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية. ويعد القانون الأخير من النصوص الدستورية لتعلقه بإدارة الحكم في العراق بعد عام 2003. 

وبصدور دستور العراق الدائم لعام 2005 في 15 تشرين الأول 2005، أي بعد صدور قانون المحكمة ب (8 أشهر و9 أيام)، والذي أصبح نافذا في 28/12/2005. 


المبحث الأول: الإشكالية القانونية لوجود المحكمة

1.     قانون إنشاء المحكمة

 أنشئت المحكمة بموجب القانون رقم 30 لعام 2005، الصادر عن مجلس الوزراء إستنادا لقانون إدارة الدولة في المرحلة الإنتقالية لعام 2003، والذي يعد وثيقة دستورية مؤقتة لحين صدور دستور دائم للبلاد. وهذه الوثيقة الدستورية مخالفة للمبادئ الدستورية لإنها صادرة من سلطات الاحتلال، وجاء في ديباجته: " فقد أقر هذا القانون لإدارة شؤون العراق خلال المرحلة الإنتقالية إلى حين قيام حكومة منتخبة تعمل في ظل دستور شرعي دائم سعيا لتحقيق ديمقراطية كاملة." ولما كان القانون المذكور يعد نصاً دستورياً فإن إلغاءه يتم تلقائيا بمجرد صدور دستور جديد، وهذا ما نصت عليه المادة 62 بقولها:

"يظل هذا القانون نافذا إلى حين صدور الدستور الدائم وتشكيل الحكومة العراقية الجديدة بموجبه".

وقد سقط هذا القانون فعليا عند صدور دستور العراق الدائم في 15 تشرين الأول 2005، حيث نصت المادة (143) منه:

"يلغى قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية، وملحقه، عند قيام الحكومة الجديدة، باستثناء ما ورد في الفقرة (أ) من المادة (53) والمادة (58) منه."



2.     تشكيل المحكمة

إن تشكيل هذه المحكمة جاء كضرورة حتمية للنظام الدستوري المزمع إقامته في العراق على الطراز الأمريكي وهو شكل الدولة المركبة بعد أن ظَلَّ العراق دولة بسيطة طيلة تاريخه وفي ظل كل النظم السياسية والدساتير المتعاقبة عليه. ويبدو إن نية الولايات المتحدة كانت قد إنصرفت مسبقا إلى إقامة دولة فدرالية على غرار شكل الدولة الأميركي على طريق الإستنساخ القسري لشكل الدولة وقبل صدور الدستور بأشهر عديدة، وذلك لإيجاد هيئة قضائية تنظر في النزاعات بين المركز والأقليم، على الرغم من أن هذا النموذج لم يفرز سوى إقليما واحدا يهدد كيان الدولة ككل بدلا من أن يعززه ويقويه. وبالتالي شهد هذا النظام في العراق فشلا ذريعا لأنه غير مصمم للعراق، وهو أشبه بجلباب واسع لجسم متوسط. وهذه التجربة الفاشلة تماثل تجربة المفتش العام الأميركية التي جرى إستنساخها في العراق للقضاء على الفساد في الوزارات ومؤسسات الدولة فزادتها سوءا وفسادا.

ويحظر القانون الدولي على سلطات الاحتلال تغيير وضع المحاكم والقضاة في الدولة المحتلة، وهذا ما نصت عليه الإتفاقية الرابعة من إتفاقيات جنيف لعام 1949، والخاصة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب المؤرخة في 12آب/أغسطس 1949، حيث نصت في مادتها (54) على ما يلي: -

"يحظر على دولة الاحتلال أن تغير وضع الموظفين أو القضاة في الأراضي المحتلة أو أن توقع عليهم عقوبات أو تتخذ ضدهم أي تدابير تعسفية أو تمييزية إذا امتنعوا عن تأدية وظائفهم بدافع من ضمائرهم."

كما نصت المادة (64) على إنه:

تبقى التشريعات الجزائية الخاصة بالأراضي المحتلة نافذة، ما لم تلغها دولة الاحتلال أو تعطلها إذا كان فيها ما يهدد أمنها أو يمثل عقبة في تطبيق هذه الاتفاقية. ومع مراعاة الاعتبار الأخير، ولضرورة ضمان تطبيق العدالة على نحو فعال، تواصل محاكم الأراضي المحتلة عملها فيما يتعلق بجميع المخالفات المنصوص عنها في هذه التشريعات.



أما الإستثناء الوحيد الذي أعطي لسلطات الاحتلال بموجب هذه الإتفاقية الدولية هو في تشكيل محاكم عسكرية فقط. وهذا ما نصت عليه المادة (66) بقولها:

" في حالة مخالفة القوانين الجزائية التي تصدرها دولة الاحتلال وفقاً للفقرة الثانية من المادة 64، يجوز لدولة الاحتلال أن تقدم المتهمين لمحاكمها العسكرية غير السياسية والمشكلة تشكيلاً قانونياً، شريطة أن تعقد المحاكم في البلد المحتل. ويفضل عقد محاكم الاستئناف في البلد المحتل."

لذا فإن تشكيل هذه المحكمة قد جاء مخالفا من حيث الشكل والموضوع وحتى التوقيت في تشكيلها. وقد نص قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية الصادر من سلطة الاحتلال الأميركي في العراق على تشكيل هذه المحكمة لأول مرة في المادة 44 منه، التي نصّت على ما يلي:

مادة 44

 (أ‌) – يجري تشكيل محكمة في العراق بقانون تسمى المحكمة الإتحادية العليا.

 (ب‌) – إختصاصات المحكمة الإتحادية العليا هي:

1. الإختصاص الحصري والأصيل في الدعاوى بين الحكومة العراقية الإنتقالية وحكومات الأقاليم وإدارات المحافظات والبلديات والإدارات المحلية.

2. الإختصاص الحصري والأصيل، وبناء على دعوى من مدع أو بناء على إحالة من محكمة أخرى في دعاوى بأن قانونا أو نظاما أو تعليمات صادرة عن الحكومة الإتحادية أو الحكومات الإقليمية أو إدارات المحافظات والبلديات والإدارات المحلية لا تتفق مع هذا القانون.

3. تحدد الصلاحية الإستسئنافية [الإستئنافية] التقديرية للمحكمة العليا الإتحادية بقانون إتحادي.

 (ج)- إذا قررت المحكمة العليا الإتحادية أن قانونا أو نظاما أو تعليمات أو إجراء جرى الطعن به أنه غير متفق مع هذا القانون يعد ملغيا.

 (د)- تضع المحكمة العليا الإتحادية نظاما لها بالإجراءات اللازمة لرفع الدعاوى وللسماح للمحامين بالترافع أمامها وتقوم بنشره. وتتخذ قراراتها بالأغلبية البسيطة ما عدا القرارات بخصوص الدعاوى المنصوص عليها في المادة 44 (ب) 1 التي يجب أن تكون بأغلبية الثلثين، وتكون ملزمة، ولها مطلق السلطة بتنفيذ قراراتها بضمن ذلك صلاحية إصدار قرار بإزدراء المحكمة وما يترتب على ذلك من إجراءات.

 (هـ)- تتكون المحكمة العليا الإتحادية من تسعة أعضاء. ويقوم مجلس القضاء الأعلى أوليا وبالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بترشيح ما لا يقل عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين فردا لغرض ملء الشواغر في المحكمة المذكورة، ويقوم بالطريقة نفسها فيما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكل شاغر لاحق يحصل بسبب الوفاة أو الإستقالة أو العزل. ويقوم مجلس الرئاسة بتعيين أعضاء هذه المحكمة وتسمية أحدهم رئيسا لها. وفي حالة رفض أي تعيين يرشح مجلس القضاء الأعلى مجموعة جديدة من ثلاثة مرشحين.

وبصدور دستور عام 2005، فقد أورد نصوصا دستورية تنظم عمل هذه المحكمة، وأضاف لها إختصاصات جديدة لم تكن موجودة سابقاً، ولم تَدُر بخلد مَن أنشأها، مثل (الرقابة على دستورية القوانين) و(المصادقة على نتائج الانتخابات)، وقد أعطاها روحا جديدة ومدّد عمرها، في حين إنه يشير لإنشاء محكمة أخرى. ولولا ذلك لعدت المحكمة ملغية بسقوط القانون الذي أنشأها. وهذه النصوص هي:



الفرع الثاني- المحكمة الاتحادية العليا

المادة (92):

أولاً:- المحكمة الاتحادية العليا هيئةٌ قضائيةٌ مستقلة مالياً وإدارياً.

ثانياً:- تتكون المحكمة الاتحادية العليا، من عددٍ من القضاة، وخبراء  في الفقه الإسلامي، وفقهاء القانون، يُحدد عددهم، وتنظم طريقة اختيارهم، وعمل المحكمة، بقانونٍ يُسن بأغلبية ثلثي أعضاء مجلس النواب.


المادة (93):

تختص المحكمة الاتحادية العليا بما يأتي:

أولاً:- الرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة.

ثانياً:- تفسير نصوص الدستور.

ثالثاً:- الفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية، والقرارات والأنظمة والتعليمات، والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء، وذوي الشأن، من الأفراد وغيرهم، حق الطعن المباشر لدى المحكمة.

رابعاً:- الفصل في المنازعات التي تحصل بين الحكومة الاتحادية، وحكومات الأقاليم والمحافظات والبلديات والإدارات المحلية.

خامساً:- الفصل في المنازعات التي تحصل فيما بين حكومات الأقاليم أو المحافظات.

سادساً:- الفصل في الاتهامات الموجهة إلى رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء والوزراء، وينظم ذلك بقانون.

سابعاً:- المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات العامة لعضوية مجلس النواب.

ثامناً:-

‌أ- الفصل في تنازع الاختصاص بين القضاء الاتحادي، والهيئات القضائية للأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.

‌ب- الفصل في تنازع الاختصاص فيما بين الهيئات القضائية للأقاليم، أو المحافظات غير المنتظمة في إقليم.


المادة (94)

قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتّة وملزمة للسلطات كافة.

ويتضح من نصوص الدستور أعلاه وخاصة المادة 92 منه، على أن المقصود هو إنشاء محكمة إتحادية عليا غير هذه الحكمة القائمة الآن، بدليل أن مجلس النواب قدّم مشروع قانون المحكمة الإتحادية العليا عام 2014، ولو كانت ذات المحكمة لما قدم لها مشروع جديد.


3.     مدة خدمة أعضاء المحكمة

إن أغرب ما ورد في قانون تشكيل المحكمة الإتحادية هو مدة خدمة رئيس وأعضاء المحكمة الإتحادية مدى الحياة ودون تحديد للعمر، إلاّ إذا رغب هو شخصيا بترك الوظيفة. وهذا ما يخالف معظم القوانين المتعلقة بالخدمة العامة، وقانون التقاعد الموحد رقم 9 لسنة 2014، الذي هو قانون عام في حين أن قانون المحكمة الإتحادية هو قانون خاص، حيث نصت المادة 10 أولا منه على أن تتحتم إحالة الموظف على التقاعد:

"عند إكماله (63) الثالثة والستين من العمر، وهي السن القانونية للإحالة على التقاعد بغض النظر عن مدّة خدمته، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك".

والأغرب من ذلك، إن قانون إدارة الدولة في المرحلة الإنتقالية المشار إليه في أعلاه، لم ينص على ذلك في المادة 44 الخاصة بتشكيل هذه المحكمة، بل على العكس من ذلك، أشار إلى حالات إنتهاء خدمة الرئيس أو أعضاء المحكمة مثل الإستقالة والعزل، وهذا ما نصّت عليه الفقرة (ه) من المادة المذكورة بقولها:

" هـ) تتكوّن المحكمة العليا الاتحادية من تسعة أعضاء، ويقوم مجلس القضاء الأعلى أولياً وبالتشاور مع المجالس القضائية للأقاليم بترشيح ما لا يقلّ عن ثمانية عشر إلى سبعة وعشرين فرداً لغرض ملء الشواغر في المحكمة المذكورة، ويقوم بالطريقة نفسها فيما بعد بترشيح ثلاثة أعضاء لكلّ شاغر لاحق يحصل بسبب الوفاة أو الاستقالة أو العزل، ويقوم مجلس الرئاسة بتعيين أعضاء هذه المحكمة وتسمية أحدهم رئيساً لها. وفي حالة رفض أيّ تعيين يرشح مجلس القضاء الأعلى مجموعةً جديدةً من ثلاثة مرشّحين."


4.     إمتيازات المحكمة

نصت المادة السادسة من قانون الأمر رقم 30 لسنة 2005 الخاص بقانون المحكمة الإتحادية العليا والصادر في 14 شباط 2005 والموقع من قبل السيد أياد هاشم علاوي رئيس مجلس الوزراء المؤقت، وقبل صدور الدستور الدائم لعام 2005 بعدة أشهر، على جملة من الإمتيازات الضخمة للمحكمة والموضوعة على الطريقة العراقية في الإسراف والتبذير بخلاف الطريقة الأمريكية المقننة. ومن هذه الإمتيازات، ما يلي: -

مادة 6

أولا – يتقاضى رئيس المحكمة الاتحادية العليا وأعضاؤها راتب ومخصصات وزير.

ثانيا – يتقاضى كل من رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا عند تركهم الخدمة راتبا تقاعديا يعادل 80٪ من مجموع ما يتقاضاه كل منهم شهريا قبل انقطاع صلتهم بالوظيفة لأي سبب كان عدا حالتي العزل بسبب الإدانة عن جريمة مخلة بالشرف أو بالفساد والاستقالة من دون موافقة مجلس الرئاسة.

ثالثا – يستمر رئيس وأعضاء المحكمة الاتحادية العليا بالخدمة دون تحديد حد اعلى للعمر إلا إذا رغب بترك الخدمة.

إن مثل هذه الإمتيازات، وحتى هذه الصياغة لا يمكن أن توجد أو تقوم بها إلا حكومة عميلة في ظِل الإحتلال.

والأغرب من ذلك، أنه جاء في الأسباب الموجبة لهذا القانون هو أن إنشاء هذه المحكمة جاء لغرض إنشاء المؤسسات الدستورية في العراق، بقولها:

" إعمالا لحكم مادة الرابعة والأربعين من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية ولغرض إنشاء المؤسسات الدستورية في العراق.

فقد شرع هذا الأمر."

فهل يجوز قانونا إنشاء مؤسسة دستورية قبل صدور الدستور؟ وإذا إعتبرنا قانون إدارة الدولة المذكور والذي أصدرته سلطات الاحتلال من قبيل النص الدستوري، فهنا يصطدم هذا النص الدستوري بنصوص القانون الدولي التي تمنع سلطات الاحتلال من إقامة المحاكم القضائية كمؤسسة دستورية في أراضي الدولة المحتلة، لأن القانون ذاته لا يجيز لها إصدار دستور دائم للبلاد وهي سلطة مؤقتة لا بدّ من رحيلها مهما طال زمن بقائها. وهنا يكون لنصوص القانون الدولي أفضلية وأسبقية في التطبيق على النصوص الدستورية، وفقا لمبدأ أعلوية القانون الدولي على القانون الداخلي.



5.     النظام الداخلي للمحكمة

صدر النظام الداخلي للمحكمة الإتحادية رقم 1 في 01-01-2005، والمنشور في الوقائع العراقية رقم العدد: 3997 بتاريخ 02-05-2005، ومن المستغرب أن يصدر النظام الداخلي للمحكمة الإتحادية قبل إنشاءها بنحو شهرين، وتحديداً (53) يوماً، حيث أنشئت المحكمة في 24 شباط 2005، علما إن النظام الداخلي المذكور قد صدر إستنادا" إلى إحكام المادة (9) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005، والتي نصَّت على ما يلي:

"تصدر المحكمة الاتحادية العليا نظاماً داخلياً تحدد فيه الإجراءات التي تنظم سير العمل في المحكمة وكيفية قبول الطلبات وإجراءات الترافع وما يسهل تنفيذ أحكام هذا القانون وينشر هذا النظام في الجريدة الرسمية".

وقد طورت المحكمة الإتحادية نظام تبليغاتها القضائية وفقا للتطور التكنولوجي خلافاً للقوانين العراقية ذات الصلة، حيث نصت في مادة 21 من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا لعام 2005، على أنه:

"يجوز للمحكمة الاتحادية العليا إجراء التبليغات في مجال اختصاصها بوساطة البريد الإلكتروني والفاكس والتلكس إضافة لوسائل التبليغ الأخرى المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية."

وهذا ما يخالف أحكام قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 وقانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979، وهذين القانونين لا يجوز تعديلهما أو إلغاءهما بنظام داخلي، لأن القانون أعلى مرتبة من النظام الداخلي.

والخلاصة إن هذه المحكمة هي إحدى مخلفات سلطات الاحتلال وستزول بزواله. ويبدو واضحا أثر اليد العراقية المشوهة التي صاغت قانونها ونظامها الداخلي لإغراض إدامة سلطة الاحتلال وتحقيقاً لأغراضها، وقد ضُمِّن قانونها أغراض شخصية لقضاتها وفي مقدمتهم رئيس المحكمة القاضي مدحت المحمود، ولطالما كانت هذه المحكمة مثار جدل وإنتقادات واسعة، من بينها المذكرة التي رفعها طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية في 4/4/2010 إلى رئيس مجلس القضاء الأعلى حول الأساس القانوني للمحكمة الإتحادية، وقد أحال رئيس مجلس القضاء الأعلى تلك المذكرة إلى رئيس المحكمة الإتحادية وهي الجهة المشكو منها والخصم في الشكوى، ولا أعلم كيف يمكن لجهة قانونية وقضائية عليا أن ترتكب مثل هذا الخطأ القانوني، وقد أصدرت المحكمة الإتحادية قرارها المكون من خمس صفحات برد الشكوى في 14/4/2010، ومحتجّة بأن المهام المذكورة في المادة 93 من الدستور هي من إختصاصها، لأن تعبير المهام الوارد في المادة 1 من قانونها جاء بشكل مطلق بقولها تنشأ محكمة تسمى المحكمة الاتحادية العليا ويكون مقرها في بغداد تمارس مهامها بشكل مستقل لا سلطان عليها لغير القانون.)، ولم يحدد المهام التي ذكرت في المادة 4 من قانون المحكمة التي تنص على أن (تتولى الحكمة الإتحادية العليا المهام التالية) وكإنما هذه المهام قد وردت على سبيل المثال لا الحصر، قائلة: "ولو أراد المشرع حصرها لقال المهام النصوص عليها في هذا القانون". وهنا أسأل المحكمة هل كان مشرع قانون المحكمة اتحادية العليا لعام 2005 يقصد مهاماً أخرى غير تلك الواردة في هذا القانون؟ أو أنه كان يقصد المهام الواردة في قانون آخر؟ لعمري إنه أسخف تفسير قانوني سمعته طيلة حياتي القانونية التي تمتد لأكثر من أربعين عاما. وتناست المحكمة الإتحادية العليا المذكورة أن المادة 44 من قانون إدارة الدولة للمرحلة الإنتقالية التي تعد الأساس القانوني الذي قامت عليه المحكمة وفقا لإرادة سلطة الإحتلال الأمريكي قد أشارت إلى إختصاصها (الحصري الأصيل) في أكثر من موضع.

وهي بالتأكيد ليست ذات المحكمة الإتحادية التي نصَّ عيها دستور العراق الدائم لعام 2005 في المواد (52و92و93و94و97) من الدستور، وإلا لما كان هناك مبرر لتقديم مشروع قانون المحكمة الاتحادية العليا في 09/8/2014، والذي لم يصدر لحد الآن.


المبحث الثاني: أهم ما جاء بقرار (حكم)  المحكمة

1.     المصادقة على قرار مجلس النواب في جلسته المؤرخة 6/6/2018، في معظمه.

2.     المصادقة على إجراء العَد والفرز اليدوي بالنسبة للصناديق المطعون بتزويرها.

3.     ردت المحكمة الطعن بقرار مجلس القضاء الأعلى بإنتداب (9) قضاة للحلول محل أعضاء المفوضية مستندة إلى أن مهام القضاة المنتدبين ستنتهي عند مصادقة المحكمة الإتحادية على نتائج الانتخابات، وإن ذلك وأن لم يرد في المادة (49) من قانون التنظيم القضائي رقم 160 لعام 1979، إلاّ أن ذلك يعد تعديلا للمادة المذكورة وإضافة لمهمة جديدة إلى مهام القاضي، وإضافة مكان جديد لم يكن من بين الأماكن التي نصّت عليه المادة (5) من القانون المذكور.

4.     إقرار عدم الحاجة إلى مصادقة رئيس الجمهورية والنشر في الجريدة الرسمية لقرار التعديل الثالث لقانون الإنتخاب، إستنادا للمادة 129 من الدستور والتي تنص على (تنشر القوانين في الجريدة الرسمية، ويعمل بها من تاريخ نشرها، مالم ينص على خلاف ذلك.). وبذلك ظهر رئيس الجمهورية ومستشاريه الكثيرين وفريقه القانوني جاهل قانونا وغير مطلع على الدستور بشكل دقيق.

5.     وكما طعنت المحكمة في ضعف فريق الرئيس قانونيا ودستوريا، فإنها أشارت أيضا إلى عدم دقة الفريق القانوني للمدعي الحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث أشار في لائحة الدعوى المقدمة للمحكمة برقم (106/إتحادية/2018) إلى قانون التعديل الثالث لقانون الانتخابات رقم 54 لسنة 2018، وصححت المحكمة ذلك بقولها (والمقصود 2013).

6.     عدم المصادقة على قرار إلغاء تصويت الخارج والنازحين والبيشمركة بشكل كامل، وإن الإقتصار على تدقيق الصناديق المطعون فيها فقط، تلافيا لهدر أصوات الناخبين ومصادرة إرادتهم.

7.     عدم إستثناء أصوات الأقليات المشمولة بنظام الكوتا من الإلغاء ومعاملتها معاملة الأصوات الأخرى في حالة وجود مخالفات بشأنها مما يتطلب إلغاءها وفقا للأدلة المتحصلة بذلك، وإستنادا لنتائج التحقيق في الشكاوى المرفوعة بشأنها. ولكنها إعتبرت أن المادة (7) من قانون البرلمان القاضي بجعل العراق دائرة إنتخابية واحدة للمكون المسيحي وبتنظيم سجل إنتخابي خاص بهم، إعتبرتها مسألة تنظيمية لا تخالف أحكام الدستور.

8.     إعتبار التزوير في الانتخابات جريمة خاضعة لقانون العقوبات العراقي النافذ في المواد التي تنص وتعاقب على جريمة التزوير في المادتين 286 و 287 من القانون المذكور. في حين أن هذه الجريمة تكررت تماما في كل الانتخابات التي جرت في العراق بعد عام 2003، وهي للأعوام 2005، 2010، 2014، وأخيراً 2018، ولم يُشر اليها سابقا بهذا الوضوح القانوني.

9.     وافقت المحكمة على قرار مجلس النواب المتعلق بوقف عمل المفوضية المستقلة للإنتخابات وإعتبرته إجراء إحترازي موقوت (مؤقت) بإنتهاء إجراءات التحقيق الذي تجريه الجهات المختصة في الوقائع التي تنسب إلى المفوضية بحكم خضوعها لرقابة مجلس النواب وفق المادة 61/سابعا من الدستور.

أهم سلبيات القرار: -

1.     إن جريمة التزوير غير ثابتة مهما كانت الدلائل وأدلة الإثبات ما لم يصدر بها حكم قضائي، ولم تحدد المحكمة أدلة الإثبات في مثل هذه الجرائم، ويمكن الركون إلى القواعد العامة المنصوص عليها في قانون الإثبات النافذ رقم 107 لعام 1979، وهو قانون قديم مضى على صدوره 39 عاماً. وأدلة الإثبات فيه قاصرة على بعض الوسائل التقليدية، كالدليل الكتابي أو السند، والإقرار والإستجواب والشهادة واليمين والخبرة، وما إلى ذلك. في الوقت الذي شهد العالم ثورة تكنولوجية غيرت وجه العالم، وأوجدت أدلة إثبات جديدة إلكترونية، مثل مقاطع الفيديو والصور عالية التقنية، وإثباتات الأجهزة التكنولوجية، والإشارات الإلكترونية وغيرها. كما يبدو أن المحكمة لا تأخذ بالقرائن التي تدل على جريمة التزوير مثل حرق صناديق الإقتراع. في حين إن المحكمة الإتحادية قد طورت نظام تبليغاتها القضائية وفقا للتطور التكنولوجي، حيث نصت في مادة 21 من النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا لعام 2005، على أنه:

"يجوز للمحكمة الاتحادية العليا إجراء التبليغات في مجال اختصاصها بوساطة البريد الإلكتروني والفاكس والتلكس إضافة لوسائل التبليغ الأخرى المنصوص عليها في قانون المرافعات المدنية."

2.     أن ألعَد والفَرز اليدوي يجب أن يقتصر على الصناديق المشكوك فيها، والتي يثبت فيها التزوير. وهنا تثور مسألة أي الصناديق هي محل شك، وأخيرا أرتأي بأن الصناديق التي قدمت للهيئة القضائية للإنتخابات شكاوى ضدها. 

3.     إن الأصوات التي لا يتطرق إليها الشك بالتزوير تعتبر صحيحة وكافية لإقرار صحة نتائج الانتخابات مهما كانت قليلة، ومهما تدنت نسبة المشاركة فيها، فالمحكمة لم تخض في نسبة الأصوات الصحيحة التي تعتبر فيها الانتخابات باطلة نظرا لقلة المشاركة فيها. وهي نسبة قد تصل إلى 5% أو أقل، وهي نسبة لم تشهدها أي انتخابات في العالم، ولا يمكن القبول بها في أي انتخابات حتى في حالة خلو القانون من تحديد نسبة معينة، لتعارضها مع جوهر النظام الإنتخابي وروحه.

4.     القت المحكمة الإتحادية الكرة في ملعب هيئة تدقيق الطعون الانتخابية في إبطال الأصوات المطعون فيها في حالة ثبوت التزوير، وكان من الأولى أن تعطي هذا الحق لصاحبة الإختصاص وهي محاكم الدرجة الأولى من محاكم الجنايات المنتشرة في كل العراق، وهي الأجدر قانونا بذلك، والأكثر كفاءة في تحديدها، والأسرع في حسمها. كما لم تتجرأ المحكمة على القول بإحالة المزورين إلى القضاء لينالوا عقابهم العادل والمنصوص عليه قانونا، مراعية بذلك ضعف تطبيق القانون على الأحزاب السياسية. وهو أمر بات معروفا على جميع الأصعدة بغياب القانون وعدم سيادته على مصادر القوة والقرار في العراق.

5.     لم تتطرق المحكمة إلى جريمة حرق صناديق الإقتراع في مخازن الرصافة، وهي أكبر نسبة تصويت في عموم العراق، لا سيما وإنها قرينة دالة على جريمة التزوير، وإن تقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية لم يصدر بعد، ومن المؤمل صدوره خلال يومين وفقا لتصريح رئيس اللجنة، والذي أشار إلى أنه سيتضمن حقائق مثيرة عن الجهات السياسية التي قامت بالحرق للتغطية على جريمة التزوير. على الرغم من أن رئيس اللجنة التائب عادل نوري، كان في مقدمة الحاضرين للإستماع لقرار المحكمة المذكورة.

6.     رفضت المحكمة طلب وكيل المدعي بإصدار الأمر الولائي الخاص بوقف الإجراءات القانونية المتخذة من مجلس القضاء الأعلى، وهو إجراء متفرع عن الدعوى الأصلية. حيث نصت المادة (151) من قانون المرافعات المدنية رقم (83) لسنة 1969 المعدل على ما يلي: -

(لمن له حق في الاستحصال على امر من المحكمة للقيام بتصرف معين بموجب القانون إن يطلب من المحكمة المختصة إصدار هذا الأمر في حالة الاستعجال بعريضة يقدمها إلى الحاكم المختص وتقدم هذه العريضة من نسختين مشتملة على وقائع الطلب وأسانيده ويرفق بها ما يعززها من المستندات).



و “الأمر الولائى”، هو نمط من القرارات التي يجوز للقضاء اتخاذها في قضايا مستعجلة، ويغلب على هذه القرارات الصفة الإدارية أكثر من الصفة القضائية، فهو قرار وقتي يصدره القاضي في الأحوال المنصوص عليها في القانون في أمر مستعجل بناءا على طلب يقدم إليه من أحد الخصوم، ولا يشترط في إصداره مواجهة الخصم الآخر.

في حين إنها أصدرت هذا الأمر في قضية الإستفتاء الكردي، حيث أصدرت المحكمة الاتحادية العليا، اعلى سلطة قضائية في العراق، وبناءً على طلب رئيس الوزراء، الاثنين "أمراً ولائياً" برقم 94/إتحادية/2017 بتاريخ 17/9/2017 بإيقاف الاستفتاء المرتقب حول استقلال إقليم كردستان في 25 أيلول/سبتمبر الحالي، حيث نصّ على أنه، وبعد المداولة ولتوفر الشروط الشكلية القانونية في الطلبات، أصدرت المحكمة أمراً ولائياً بإيقاف إجراءات الاستفتاء المنوي إجراؤه بتاريخ 25 أيلول 2017، بموجب الأمر الرئاسي المرقم (106) في 8 حزيران 2017 الصادر عن رئاسة الإقليم الكردي لحين حسم الدعاوى المقامة بعدم دستورية القرار المذكور”.



إن فقه قانون المرافعات أشار إلى أن الأمر الولائي ليس بحكم قضائي فاصل في الدعوى وإنما هو من الأعمال القضائية التي تباشرها المحكمة عرضا عند النظر في أصل الدعوى من جهة الموضوع وتكون هذه الأوامر القضائية أقرب إلى أعمال الإدارة القضائية للدعوى. لأن الأمر الولائي هو مجرد إجراء إداري بوقف بعض التصرفات لتجنب الإضرار بحقوق طالب الأمر الولائي وحماية حقوقه وحفظها لحين البت في الدعوى الأصلية، وفي حالة عدم وجود مثل هذه الدعوى فإن الأمر الولائي يسقط تباعاً.

7.     لم تتطرق المحكمة إطلاقا إلى موضوع مهم وهو نسبة التصويت، ولم تبين رأيها في عدم تحديد نسبة معينة للمشاركة في الانتخابات، في قانون الإنتخاب والقوانين ذات الصلة، ولم تُشِر لا من قريب أو بعيد إلى ماهية النسبة المقبولة في الانتخابات والتي يمكن إعتبار الانتخابات غير مصادق عليها عند عدم توافر تلك النسبة، على الرغم من أن تصريحات رسمية عديدة أشارت إلى أنها أقل من 20%، وأن أغلبية الشعب العراقي قد قاطع هذه الانتخابات بنسبة تصل إلى 80% أو أكثر. وكنّا نتمنى على المحكمة أن تخوض في ذلك، لتبرر قرارها في المصادقة على الانتخابات من عدمه. 


تأثير القرار على نتائج الإنتخابات وتداعياته: -

مما لا شَّك فيه أن لقرار المحكمة الإتحادية المذكور تداعيات كبيرة، في مقدمتها:

1.     أنها ستغير نتائج الانتخابات. وسيصبح بعض الفائزون خاسرين وبالعكس.

2.     إنه إنتصر للسلطة التشريعية (البرلمان) وللسلطة التنفيذية (رئيس الوزراء)، بإعتبار المحكمة أعلى هيئة قضائية ممثلة للسلطة القضائية في العراق. فوافقت على قرارات البرلمان، وساندت رئيس الوزراء تجاه خصومه.

3.     أنها فتحت الباب لصراع مسلح تقوده ميليشيات تنتمي لأحزاب وتيارات سياسية كانت قد وجدت أن فوزها قد بات مؤكدا.

4.     إنها ألمحت إلى قبولها لنتائج الانتخابات وذهابها للمصادقة عليها في أكثر الإحتمالات.

5.     إنها فتحت الباب على مصراعيه لإلغاء نتائج الانتخابات وعدم المصادقة عليها، وربما إعادة الانتخابات بعد مدة ستة أشهر.

6.     إنها أقرت إستمرار سلطات الدولة الثلاث على الرغم من إنتهاء مددها وفقا لنصوص دستورية صريحة وواضحة. كالبرلمان الذي ستنتهي مهلته بعد عشرة أيام في الحادي من شهر تموز/يونيو القادم، إستناداً للمادة (56/أولا) من الدستور. وكذلك إعتبار السلطة التنفيذية (الحكومة) حكومة تصريف أعمال بعد إنتهاء مدتها الدستورية والبالغة أربع سنوات.

7.     تلميح ضمني إلى الذهاب لحكومة طوارئ عند تعذر إستمرار حكومة تصريف الأعمال بعد مدة ستة أشهر.

الإستنتاجات: -

إستنتاجان يبرزان من ثنايا هذا القرار لا ثالث لهما، فإما أن تصادق المحكمة الإتحادية على نتائج الانتخابات رغم هزالتها وعدم الثقة بنتائجها، والإقرار الضمني بوجود حالات تزوير كثيرة طمست معالمها، أو أن ترفض المصادقة عليها، وتفسح المجال لإعادة الانتخابات لاحقاً.

وعلى الرغم من أن هذين الإستنتاجين أحلاهما مُر. فانهما سيقودان إلى حاتين هما: -

1.     حكومة هزيلة تتشكل رغم الصعوبات والعراقيل، ولن تحظى بفرصة الإستمرار وإكمال مدة دورتها البالغة 4 سنوات. ناهيك عن إنها ستكون مثار شك غالبية الشعب العراقي، وستكون فاقدة للشرعية، كما إنها من المؤكد ستتعثر في مسيرتها ولن تصمد لأشهر معدودة.

2.     حكومة طوارئ تتولى على عاتقها تصحيح الأوضاع العامة في البلاد، وتؤمن سلامة الموطنين وتمنع قيام حرب أهلية، وتحجم الميليشيات مستندة على الدعم الدولي وفي مقدمته الدعم الأمريكي المتواجد في العراق، وهذا أفضل الحلول، حيث أن تغيير الوضع السياسي في العراق بات ضرورة حتمية بعد أن وصلت الأمور المتدهورة إلى نهايتها.

أن أقصى ما يمكن أن نستشفه من قرار المحكمة من الناحية السياسية هو أن المحكمة الإتحادية العليا ما زالت ملتزمة بتعهدها في خدمة الولايات المتحدة التي انشأتها زمن الاحتلال، وأنها اليوم تريده أن تقف إلى جانب التغيير الذي تسعى إليه لسياستها في العراق تلافيا للفشل الكبير الذي أصابها لا سيّما وهي راعية هذه العملية السياسة وعرّابها، وقد قررت الوقوف إلى جانب المكون السني الذي يمثّله رئيس البرلمان سليم الجبوري، بعد أن وقفت طيلة السنوات الماضية مع المكون الشيعي المدعوم من إيران لتمرير سياستها في تدمير العراق، وإنها وقفت مع المالكي أمين عام حزب الدعوة الإسلامي ومنحته الولاية الثانية وفقا لقرارها 25/اتحادية/2010 الصادر في 25/3/2010 بموجب تفسيرها لمفهوم (الكتلة النيابية الأكثر عددا) المنصوص عليه في المادة (76/ أولاً) من الدستور على (يكلّف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية)، بقولها " إن تطبيق أحكام المادة (76) من الدستور يأتي بعد انعقاد مجلس النواب بدورته الجديدة "، وأضاف المتحدث باسم المحكمة لاحقا في 23 يونيو 2018  "وهي الكتلة التي تتكون من نواب في تجمع معين يعلن عنه في مجلس النواب، وأن إرادة المشرع الدستوري لم تكن متجهة إلى منح القائمة الانتخابية حق تشكيل الحكومة بمجرد فوزها عددياً في الانتخابات، ولو أراد ذلك لنص عليه صراحة" وبذلك إستبعدت كتلة أياد علاوي الفائزة ومنحتها إلى نوري المالكي. وقد رأينا كيف إن المحكمة قد ردّت مذكرة طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية، ورئيس الحزب الإسلامي وممثل المكون السّني في العراق عام 2010، قبل هروبه إلى تركيا بعد أن لاحقته دعاوى قضائية تتهمه بالإرهاب. وأعلن استقالته من منصب نائب رئيس جمهورية العراق بتاريخ 30 ديسمبر 2013 "إستنكارا لسياسات المالكي" كما ذكر في كتاب إستقالته.

وفي رأينا، إن معطيات المحكمة تتجه لترجيح إلغاء هذه الانتخابات بعد ثبوت حالات التزوير، لا سيّما وأن نسبة المشاركة فيها كانت متدنية جداً ولم تتجاوز 20%، وهي أقل نسبة انتخابات في العالم، وقد قاطعها معظم الشعب العراقي لعدم إيمانه بجدوى الإنتخابات في ظل نظام سياسي فاسد، والدعوة لإنتخابات جديدة خلال ستة أشهر لعد جملة من الإصلاحات الانتخابية التي ستطال قانون الانتخابات والنظام الإنتخابي المعروف ب (سانت ليغو) وتغيير مجلس المفوضين في مفوضية الانتخابات، وفسح المجال لإعلان حكومة طوارئ مع عدم التمديد لمجلس النواب دون حصول أي فراغ دستوري كما يشاع.



د. رياض السندي

كاليفورنيا في 25 حزيران 2018


المعارضة العراقية بعد 2003 وإرهاصاتها


المعارضة العراقية بعد 2003 وإرهاصاتها



د. رياض السندي



-         مقدمة
إبتداءً، يمكن القول بإختصار شديد، إنه ليس هناك معارضة حقيقية في العراق. وبالأحرى لم يكن هناك معارضة عراقية حقيقية، عندما تم إسقاط نظام صدام حسين عام 2003.

 فالجماعات المختلفة والتي أطلق عليها جزافاً تسمية المعارضة العراقية، لم يكونوا معارضين أولا، كما لم يكونوا عراقيين ثانيا. إن كل ما كان يجمع تلك الجماعات، هو (كره صدام حسين)، والرغبة الكامنة في الإستحواذ على المناصب والثروات. ومن وراء كل ذلك، هو تحقيق أجندات دولية متعارضة، إتفقت بشكل مؤقت وفق صيغة (الأخوة الأعداء). وخير مثال على ذلك، هو أمريكا وإيران. فأمريكا كانت ومازالت تنظر الى إيران على إنها محور الشر في العالم. وبالمقابل، ما زالت إيران ترى في أمريكا على إنها الشيطان الأكبر.

فتلك الجماعات المختلفة التي لم يكن يجمعها جامع، إفتقرت جميعها لأي أيدلوجية سياسية، لا بل إن بعضهم قال لي شخصياً: إن زمن الأيدولوجيات قد ولّى. وهكذا لم تكن تلك الجماعات تمتلك أي رؤيا سياسية، لعدم وجود مفكرين سياسيين لديها. وقد إعتمدوا في نظرتهم السياسية، الى ما تلقّنه لهم الدول التي إحتضنتهم، مثل أميركا وإيران وبريطانيا وغيرها، وما تزودهم به من تعليمات وتوجيهات لاحقاً. على العكس من حزب البعث العربي الإشتراكي، الذي تم إسقاطه في العراق، والذي كان يستند الى نظرية سياسية، صاغها مفكرو الحزب، أمثال ميشيل عفلق، وشبلي العيسمي، وإلياس فرح، وغيرهم. ويتذكر القراء العرب لمؤلفات عفلق، في سبيل البعث، وذكرى الرسول العربي، ونظرتنا الى الدين. كما يمكن تذكر كتب العيسمي، مثل، العلمانية والدولة الدينية، وعروبة الإسلام وعالميته. ويتذكر الجميع كيف ان حزب البعث وقبل ان يستلم السلطة في العراق كان قد وضع تصورا للعديد من المسائل الجوهرية وقضايا الساعة التي تشغل بال المواطن العادي، حيث ناقش مسألة الدين، وهي من الأمور الجوهرية في أي مجتمع، وكتب مفكرو الحزب آنذاك كراسا تحت عنوان (نظرتنا الى الدين)، وكذلك أصدر اعلام الحزب كراسا اخر ضع تصورا لحل المسألة الكردية من خلال مفهوم الحكم الذاتي عام 1970. وكذلك الامر بالنسبة للمسيحيين في العراق، وعلى اختلاف طوائفهم من خلال قانون منح الحقوق الثقافية للناطقين بالسريانية عام 1972. ومسائل اخرى جوهرية تخص دور المرأة والعمال والفلاحين والطلبة في المجتمع. 

ويمكن القول بإختصار، إن البعثيون في العراق كانوا أكثر خدمة للإسلام من الأحزاب الإسلامية التي حكمت العراق طيلة 14 سنة الماضية، والتي أساءت له كثيراً. كما كانوا أكثر خدمة للشعب العراقي، في مجال الخدمات العامة.

للإجابة على سؤال ما إذا قد نشأت جماعات معارضة لنظام الحكم بعد 14 سنة من حكم الأحزاب الإسلامية؟ 
نقول ابتداءً، انه من حيث المبدأ، إن قيام معارضة سياسية وطنية، يتطلب توافر ثلاثة أمور أساسية فيها، وهي: -
- رؤيا سياسية 
- قاعدة جماهيرية
- قيادة كاريزمية 
فهل توافرت هذه المتطلبات اليوم في المعارضة الشعبية في العراق؟

·  بدايات المعارضة بعد 2003

نتيجة معاناة العراقيين في الداخل من حصار إقتصادي قاسي فرضته الأمم المتحدة طيلة 13 سنة، إضافة لقسوة النظام في سنواته الأخيرة، فقد وجد العراقيون في إزاحة النظام متنفساً كبيراً للتخلص من الحصار وظلم النظام معاً. وهذه كانت غاية الحصار في تخلي الشعب عن القيادة، باعتبارها سبب جوعه وإضطهاده.

وتتشكل القوى السياسية في العراق من مجموعة من الأحزاب والقوى متباينة الأهمية والامتداد والعمق، بعض هذه القوى يمتد في تاريخه إلى عدة عقود لكنه اضطر إلى تجميد عمله أو نقل نشاطه إلى المنفى، وبعضها نشأ ونمى في الخارج، والثالث ظهر في الفترة التي تلت الغزو مشكلا ظاهرة من التعددية السياسية لم يعرفها العراق أو المنطقة من قبل وذلك بغض النظر عما فيها من فوائد أو ما يوجه إليها من نقد.
أما الأحزاب القومية العربية فهي على العموم قديمة التشكيل وما زالت تحتفظ بقياداتها القديمة، ومعظمها أعلن معارضته للاحتلال وقاطع العملية السياسية وكذلك الانتخابات الأخيرة، ومن بين أبرز هذه الأحزاب: -
•الحركة الاشتراكية العربية بزعامة السيد عبد الإله النصراوي  
•الحزب القومي الناصري بزعامة السيد صبحي عبد الحميد  
•حزب الإصلاح الذي تشكل بعد الحرب بدعم من الجناح السوري لحزب البعث.

ولم تظهر في الأيام الأولى لغزو الولايات المتحدة إي مقاومة تذكر، وحتى البعثيون كانوا مازالوا تحت تأثير الصدمة. إلا إنه بمرور الوقت، تكشفت الأمور بعد إن نظم البعثيون أنفسهم وشكلوا جماعات مقاومة مسلحة للوجود الأمريكي. كما إن السُنة، عزفوا عن المشاركة في انتخابات 2004. وعموما، يمكن تقسيم المعارضة السياسية في العراق الى نوعين رئيسيين هما: مسلحة أو سلمية. 

أولا- جماعات المعارضة السياسية المسلحة

لذا فقد كانت هناك أربع جماعات معارضة مسلحة، 3 جماعات منها، معارضة عراقية مسلحة، وجماعة معارضة إرهابية مسلحة من الخارج، وهي: -

1.     البعثيون وأنصار النظام السابق.
2.     جماعة السُنة. 
3.     جماعة شيعية واحدة، هي تيار مقتدى الصدر.
4.     تنظيم القاعدة الإرهابي.

أما البعثيون فقد شكّلوا في عام 2005، الجبهة الوطنية والقومية والإسلامية والتي تعرف إختصاراً (الجهاد والتحرير)، وتضم عدة جماعات من بينها جيش رجال الطريقة النقشبندية، وأمينها العام هو عزة إبراهيم الدوري، نائب رئيس الجمهورية الأسبق. وقد إمتنعت الإدارة الأمريكية عن أي تعامل رسمي معها.

في حين إستطاعت الإدارة الأمريكية من إحتواء جماعتي السنة والتيار الصدري، من خلال إشراك التيار الصدري الذي يتزعمه رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر في العملية السياسية، ومنحهم بعض المناصب الوزارية والبرلمانية. وإتفقت مع فصيل سني في الانبار غرب العراق، من تشكيل جماعات مسلحة خاصة بمناطقهم سميت قوات الصحوة، أو ما يعرف ايضاً بمجالس الإسناد أو الإنقاذ، وهي تجمعات عشائرية عراقيّة سُنّيّة أنشئت بعد الاحتلال الأميركي للعراق لمواجهة تنظيم القاعدة، في أيلول/سبتمبر 2006، وقد بلغ قوامها 80 ألف مقاتل، وأبرز مؤسسيها عبد الستار أبو ريشة، وقد خلفه شقيقه أحمد، والتي ألغيت بعد إلانسحاب الأمريكي من العراق فيما بعد. وعلى الرغم من مشاركة السُنة في السلطة، إلا إن العلاقة بينهما وبين الأحزاب الشيعية ما زالت غير مستقرة.

واليوم عاد السُنة للمطالبة بالإقليم السنّي الذي من المقرر أن يشمل المحافظات السنية الأربع، وهي: الانبار، والموصل، وصلاح الدين وديالى، بإستثناء العاصمة بغداد، ومحافظة كركوك الغنية بالنفط، والمتنازع عليها.

ولم يبقي إلا فصيل سني صغير يمثله حارث الضاري أمين عام هيئة علماء المسلمين الذي ترك العراق وإستقر في عمان بالاردن، فأهمله الأمريكان، وهي ليست حزبا تقليديا بل مؤسسة دينية تعاطت مع الشأن السياسي وقد تأسست بعد الحرب مباشرة وعرفت بأنها من القوى المناوئة للوجود الأجنبي، وقاطعت العملية السياسية والانتخابات عموماً. وقد خلفه في هذا المنصب إبنه مثنى، منذ كانون الأول/ديسمبر 2015.

 أما بقية السُنة فقد أعلنوا موالاة الحكومة بشكل أو بأخر، أو شاركوها في تقاسم الغنائم، مقابل بقاء السلطة بيد أحزاب الشيعة.

أما الأكراد فهم شريك أساسي في ممارسة السلطة، ومنحت لهم بعض المناصب السيادية، مثل منصب رئيس الجمهورية، ووزارة الخارجية أو المالية، وعدد من النواب، وغير ذلك. وعلى العموم، فالكرد ليسوا معارضين للحكومة على الإطلاق وإن إختلفوا معها أحيانا، فهو إختلاف على تقاسم الغنائم، وليس إختلاف أيديولوجي أبدا، وسياستهم تتمثل في إرساء مزايدة العلاقة معهم على المزايد الأعلى.

وبقيت القوات الأمريكية تحارب فقط تنظيم القاعدة الإرهابي الذي لا يمكن إغراءه بالمال أو المناصب، طيلة عقد كامل، حتى ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليحل محل القاعدة، بنسخة أكثر إرهابا من سابقه.

ولقد أدركت الإدارة الأميركية الأن تماما، إن الإطاحة بنظام دكتاتوري أسهل بكثير من خلق نظام تعددي، وهذا ما توصل اليه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر بقوله: " إجتراح نظام ديمقراطي تعددي بدلاً من حكم صدام حسين الوحشي أثبت إنه أصعب بكثير من إطاحة الدكتاتور. فالشيعة المحرومون منذ زمن طويل الذين إكتسبوا قدراً غير قليل من الصلابة جراء عقود الظلم في ظل صدام حسين، كانوا ميالين إلى وضع إشارة المساواة بين الديمقراطية والمصادقة على هيمنتهم العددية. أما السنة فتعاملوا مع الديمقراطية كما لو كانت مؤامرة خارجية لقمعهم؛ وعلى هذا الأساس، فإن أكثرية السنة قاطعت انتخابات عام 2004، الحاسمة في تحديد نظام ما بعد الحرب الدستوري. والأكراد في الشمال، المثقلين بذكريات إغارات بغداد الإجرامية، بادروا إلى تعزيز قدراتهم العسكرية المنفصلة وجهدوا للسيطرة على حقول نفطية طلباً لموارد غير معتمدة على الخزينة القومية-الوطنية. راحوا يعرّفون الحكم الذاتي من منطلقات حساسة الاختلاف، إذا كانت مختلفة بالمطلق عن الاستقلال القومي-الوطني".

ثانياً- جماعات المعارضة السياسية السلمية
سعت الإدارة الأميركية الى إشراك السنّة في الحكم، وقد أنشئت أحزاب عديدة منها: -
-         الحزب الإسلامي العراقي
-         مجلس الحوار الوطني 
-         كتلة المستقبل
-         حزب الامة العراقي
-         مؤتمر صحوة العراق
-         المؤتمر الوطني العراقي
-         الجبهة العراقية للحوار الوطني
-         جبهة التوافق
-         الحركة الوطنية للإصلاح والتنمية (الحل)

وقد مارست الأحزاب السنيّة دوراً مزدوجاً في الانضمام للحكومة ومعارضتها في نفس الوقت. ودخلوا انتخابات عام 2006، وفازوا ببعض المناصب السيادية والوزارات، مثل نائب رئيس الجمهورية الذي كان من حصة الحزب الإسلامي وقد تقلده طارق الهاشمي، كما منح لهم منصب رئيس البرلمان، فتقلده على التوالي: محمود المشهداني، وأسامة النجيفي، وسليم الجبوري. إلا إن هذه الجماعات قد جرى ضربها في عهد نوري المالكي، حيث قدم المشهداني إستقالته مرغما في ديسمبر/كانون الاول 2008، وغادر الهاشمي الى تركيا في ديسمبر/كانون الاول 2011، واستقال وزير المالية رافع العيساوي في مارس 2013 وغادر الى الأردن، وهذه كلها ضمن حملة ضرب الجماعات السنيّة في العراق. وبعد إلإنسحاب الأمريكي عام 2010، إستطاعت إيران من إحتواء الجماعات السنيّة المتبقية.

ويرى البعض إن العملية السياسية في العراق بأنها ميتة ومبنية على المحاصصة، حيث إن لكل من السنة والشيعة والأكراد حصة حددها المحتل الأميركي.

واعتبر أن المكون السني هو الحلقة الأضعف في العملية السياسية بسبب قبوله اللعبة السياسية الجائرة المبنية على أسس طائفية، مشيرا إلى أن المشاركين في العملية السياسية من السنة لا يمثلون جميعا فكرة الهوية للمكون السني وإنما ينتسبون لهذا المكون بالهوية وانتماؤهم الحقيقي هو للمصلحة الشخصية، حسب تعبيره.

·  واقع المعارضة اليوم
وإستمر حال المعارضة السياسية، على هذا المنوال، حتى ظهور داعش وإستيلائه على مدينة الموصل، المدينة الأثرية المعروفة، وثاني أكبر محافظة عراقية، بتاريخ 9 حزيران 2014. ومنذ ذلك التاريخ، ظهرت جماعات معارضة مختلفة، وهي جميعها معارضة سياسية سلمية، إلا إن المؤشر الخطير فيها، انضمام الشيعة الى المعارضة، بعد أن تم إغراءهم طيلة عقد كامل بأن الحكم بأيديهم، وعليهم التغاضي عن كل مساوئ النظام، حماية للمذهب، ومقابل إطلاق الحرية لهم في ممارسة شعائرهم الدينية.
إلا أن ما خلفه إستيلاء داعش على الموصل من تداعيات خطيرة، أهمها: - 
أولا. سوء الأوضاع الاقتصادية، نتيجة التدهور الكبير في أسعار النفط، حيث إنخفض سعر البرميل من أكثر من مئة دولار الى أقل من خمسين دولاراً.

ثانيا. إنشاء فصائل شيعية مسلحة لمحاربة داعش، اعتبرت ميليشيات أول الامر، إستمدت شرعيتها من فتوى الجهاد الكفائي الصادرة عن المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، ثم جرى توحيدها تحت مسمّى (الحشد الشعبي)، الذي أعترف له بشرعيته وفقا لقانون هيئة الحشد الشعبي في 2016. وتم إشراكها في معارك كثيرة داخل العراق وخارجه، مما أدى الى تزايد أعداد القتلى من الشيعة تحديداً.

ثالثا. تدني مستوى الخدمات العامة، كالكهرباء والماء والصحة والتعليم والقضاء، وغيرها، مما أدى الى تفاقم نقمة الشيعة الى جانب السنة قبلهم.

رابعا. تدهور العلاقة بين الحكومة المركزية والاكراد، وإصرار كل طرف على مواقفه، حول العديد من القضايا، مثل تصدير نفط الإقليم، وحصته من ميزانية الدولة، وإستجواب وإقالة عدد من المسؤولين الكرد في الحكومة المركزية، وقضية كركوك المتنازع عليها.

·  جماعات المعارضة اليوم
ويمكن تقسيم هذه الجماعات الى ثلاثة أنواع، وهي: -
أولا. الإحتجاجات السلمية

(1) حركة الاحتجاجات المدنية
لقد اثبتت حركة الاحتجاجات الشعبية في العراق والتي قادتها مجموعة من الناشطين المدنيين ومنذ ما يقرب من خمس سنوات من انطلاقتها وتحديدا في شباط 2011 انها غير قادرة على دفع الحكومة تجاه الإصلاح ناهيك عن التغيير الذي لم يتبلور في ذهنهم بشكل واضح. فحكام اليوم لا يقومون بأي خطوة نحو الإصلاح الاّ مرغمين وعلى قدر ذلك الارغام وبالشكل الذي لا يكون فاعلا ولا يصب في مصلحة الشعب، مثل تغيير امين بغداد، او تغيير وزير الصحة او حتى تغيير رئيس الوزراء. وهذا ما يدل على ان المشكلة تكمن في جوهر النظام بشكل عام.
وقد قمعت تلك الاحتجاجات بشتى الطرق معتمدين في ذلك على الخبرة الايرانية في هذا المجال. لذا فقد بدت الاحتجاجات غير فاعلة وضعفت شيئا فشيئا، لكنها ظلت مثل الجمر تحت الرماد انتظار من يشعل الشرارة الأولى للثورة. وقد عانت تلك الحركة من نقاط ضعف يمكن ايجاز أهمها بما يلي:
1.     عدم وجود قيادة موحدة للحركة.
2.     عدم وجود فلسفة ومنهاج لها.
3.     ضعف الامكانيات المادية لها.
4.     طغيان المصلحة الخاصة على معظم قادة الحركة.
5.     ضعف البعد الدولي للحركة.
6.     عدم تحصين قادة الحركة أمنيا.
7.     بطء الحركة وتعثر مسيرتها قياسا الى اجراءات الحكومة.

كل هذه العوامل أدت الى سهولة احتواءها وتحجيمها واضعاف تأثيرها. وتعاني احتجاجات ساحة التحرير في العراق من هذه الصعوبات، وهذا ما قاد الى انقسام حركة الاحتجاجات الى مجموعات صغيرة عديدة لا يربطها رابط ثوري. اما الايام الاولى للاحتجاجات والتي شهدت تجمع عشرات الالوف من المواطنين فيعود الى توافر الرابط العقائدي الثوري لدى عموم الشعب، وبمجرد غياب الرابط تفرق الجميع وأصبح قادة التنظيم دون غطاء في مواجهة السلطة.

 وتضم كل مجموعة عدد قليل من الافراد الذين تجمعهم صلات معينة، لذا فان تأثيرها كان ضعيفا واستطاعت السلطة تحجيم دورها والقضاء على بعض قادتها. وهنا ظهرت مجموعة الحزب الشيوعي العراقي الاكثر تنظيما بحكم خبرتها الطويلة واستطاعت أن تتسيّد الموقف لفترة معينة رغم انها شريك في السلطة منذ البداية، الا ان كل هذه الخبرة لم تمنعها من الوقوع في شباك الاسلام السياسي الذي يستند الى الدين والمقدس والله. وبالفعل فقد استطاع أحد تيارات الاسلام السياسي والمشارك فيما يسمى تضليلا بالعملية السياسية من ان يتقدم الى الامام ويقف في واجهة حركة الاحتجاجات ويتسيّد الموقف بفضل شعبيته والتزام انصاره.

(2) حركة الاحتجاجات العراقية 2013، وهي حركة شعبية نشطت في المناطق ذات الاغلبية السنية من العراق مثل الرمادي و صلاح الدين و الموصل وكركوك و تبعتها مناطق متفرقة من بغداد مثل الأعظمية و الدورة وكذلك في ديالى و طالب المتظاهرون خلالها بإطلاق سراح المعتقلين والمعتقلات في السجون العراقية وإيقاف نهج الحكومة الذي وصفوه بال"طائفي" وإلغاء المادة 4 ارهاب وقانون المساءلة والعدالة من الدستور العراقي وانشاء اقليم "سني" لاحقاً تحولت المطالب إلى اسقاط النظام الحاكم ذي الأغلبية الشيعية وإيقاف ما وصفوه بالتدخل الإيراني في العراق اعقبت هذه الاحتجاجات اشتباكات مسلحة في المناطق التي حدثت فيها التظاهرات بين قوات الجيش العراقي والشرطة من جهة ومسلحين سنة ينتمون إلى هذه المناطق من جهة أخرى.
    وقد ظهرت هذه الحركة بعد إنسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2010، وإنفراد إيران في العراق، في الولاية الثانية للمالكي، وبفضل سياسته الرعناء، عاد السُنة لمعارضة الحكومة من خلال ما عٌرف بساحات الإعتصام، مثل ساحة إعتصام الفلوجة في الرمادي وساحة إعتصام الموصل في الموصل، وساحة إعتصام الحويجة في وكركوك، وديالى، والتي تم فضّها جميعها بالقوة.

ولقد طرح الاعتصام المفتوح والمستمر كأحد الحلول لتطوير حركة الاحتجاجات، لحين تحقيق مطالبها او اجراء التغيير. وكان لهذا الخيار -فيما لو إستمر- أن يؤدي الى ظهور طبقة سياسية جديدة تتولى مهمة التغيير الشامل في العراق، وآنذاك سنكون امام ثورة. الا ان تسارع الاحداث جعل من الاعتصام امر غير ذي جدوى بعد الان. فالأمور قد وصلت الى نقطة النهاية.

(3) الحراك المدني المستقل
ويضم مجموعة من الشباب الناشطين المدنيين من مختلف محافظات العراق. وقد إنبثقت هذه الحركة في شباط 2011، ثم تم تأسيس جماعة بإسم الحراك المدني عام 2013 للقيام بحملة إلغاء تقاعد البرلمانيين. وقد عقد الحراك المدني المستقل تسعة مؤتمرات في محافظات مختلفة، وكانت إنطلاقة المؤتمر الأول في مدينة النجف، إلا إن دخول جماعات تنتمي للأحزاب السياسية القائمة، وفي مقدمتهم التيار الصدري قد إستلبت هذا الحراك إستقلاليته، وإستغلت حاجته للأنصار، ولكنهم كانوا أنصار وقتيين، سرعان ما ينفضون من حولهم. إلا إن الحراك لم يستطع حتى هذه اللحظة أن يتخلص من أسارهم. كما إن الحزب الشيوعي والتيار الصدري هم شريكين متشاركين في الحكومة. 
وقد ضمت هذه الحركة عدة جماعات هي:
       الحزب الشيوعي العراقي 
       أنصار التيار الصدري
       تنسيقيات التظاهرات في مختلف المحافظات، بإستثناء محافظات إقليم كردستان العراق.
       الحراك المدني المستقل

وكانت إنطلاقة الإحتجاجات العراقية في 31 يوليو/تموز 2015 في ساحة التحرير في بغداد للمطالبة بتحسين واقع الخدمات وخصوصا الكهرباء، حيث طالبوا بمحاسبة وزير الكهرباء قاسم الفهداوي أو إقالته، بالإضافة للمطالبة بتخفيض رواتب المسؤولين والوزراء والنواب والدرجات الخاصة. ثم إنتقلت الى مشاكل أخرى كثيرة، مثل مشكلة رواتب موظفي السكك الحديد، مشكلة الضرائب، وإقالة رئيس مجلس القضاء الأعلى، وغيرها.

ثانيا. الاعتصام المدني 
·        الإعتصام المدني الشعبي (التيار الصدري والتيار المدني)
انطلقت صباح الجمعة (18 مارس/آذار 2016) فعاليات اعتصام أتباع التيار الصدري في المنطقة الخضراء في العاصمة بغداد للمطالبة بالإصلاح ومحاربة الفساد. وفي يوم السبت 30 نيسان 2016، إقتحم المتظاهرون من أنصار التيار الصدري بوابات المنطقة الخضراء المحصنة حيث المقار الحكومية وصولا الى البرلمان، ثم سحب التيار الصدري مؤيديه من المنطقة الخضراء في بغداد الأحد 1 مايس 2016 بعد يوم من اقتحامهم مقر البرلمان. وطلبت عناصر من ميليشيا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر من المتظاهرين المغادرة بعد 6 ساعات على اقتحامهم المبنى داخل المنطقة الخضراء الشديدة التحصين.
·        إعتصام نواب البرلمان (حركة الإصلاح البرلمانية)
ولاحقا، في 12 أبريل/نيسان 2016 اعتصم عدد من أعضاء مجلس النواب، داخل قاعة البرلمان احتجاجاً على الكابينة الوزارية الثانية التي قدمها رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي. وقيام أكثر من 50 نائبا بالاعتصام وقضاء الليلة في مبنى البرلمان للمطالبة بعقد جلسة لإقالة الهيئات الرئاسية الثلاث في العراق.

وطالب أكثر من 100 نائب عراقي من مختلف الكتل في وثيقة تم تقديمها أمس إلى رئيس البرلمان العراقي بعقد جلسة لبحث موضوع إقالة الرئاسات الثلاث في البلاد "التنفيذية والتشريعية ورئاسة الجمهورية".

وفي 14 نيسان صوّت النواب المعتصمون داخل مجلس النواب برئاسة النائب عدنان الجنابي، بالإجماع على إقالة هيئة رئاسة البرلمان واختيار الجنابي رئيساً له بدلاً من سليم الجبوري بشكل مؤقت.

وفي 26 نيسان أنهى البرلمان أزمة استمرت لأكثر من أُسبوعين، بعقد جلسة أعادت الثقة برئيسه سليم الجبوري ونائبيه الذين تمت إقالتهم في جلسة سابقة عقدها 170 نائباً. وتّم تصوّيت مجلس النواب العراقي على تسمية مرشح الكابينة الوزارية الجديدة عبد الرزاق العيسى لمنصب وزير التعليم العالي والبحث العلمي، وعلاء دشر لمنصب وزير الكهرباء، ووزير الموارد المائية حسن الجنابي، وعلاء غني وزيراً للصحة ووفاء المهداوي وزيرة للعمل والشؤون الاجتماعية.

وهكذا، فقد أستخدمت بعض الكتل السياسية وسيلة الإعتصام للضغط على الحكومة لانتزاع بعض المناصب الحكومية الكبيرة. فهل كان الإعتصام سلاح للتغيير أم وسيلة ضغط فقط؟

ثالثا. الأحزاب السياسية الجديدة
وقد ظهرت اليوم ضمن تشكيلات جديدة. وقد سبق الذكر، أن مفوضية الانتخابات قد أعلنت عن تسجيل أكثر من 200 حزب وتنظيم سياسي، منها 133 حزبا قديما، و79 حزبا جديدا. إلا إن معظمها سيدخل ضمن تحالفات أحزاب السلطة، لذا سنقتصر هنا على أهمها والمعلن منها، وهي: -
          المشروع العربي في العراق
تأسس في منتصف عام 2015، والمشروع العربي في العراق تنظيم وطني اجتماعي ثقافي سياسي عام، يؤكد على وحدة العراق أرضا وشعبا، وبأن العراق جزء من الامة العربية. وهو يسعى إلى بناء عراق ديمقراطي يؤمن بأن العراق مجتمع تعددي، ومن ثم لا بد من له من نظام سياسي يؤمن المشاركة الحقيقية لمكوناته. الأمين العام لـلمشروع العربي في العراق الشيخ خميس الخنجر.
          المبادرة الوطنية – موطني
أعلن عنها في بغداد بشهر كانون الأول (ديسمبر) 2015، منطلقا وإطارا لتحالف قوى الاعتدال والتغيير المدني ضمن صيغة شركاء في الرؤية وليس التنظيم. وراعي هذه المبادرة هو الدكتور غسان العطية، الذي يرى إن على القوى المدنية العراقية أن تستثمر وعي الشباب المتنامي بضرورة مغادرة “منهج المحاصصة العرقية – الطائفية التي بنيت عليها العملية السياسية”، ووجود مطالب شعبية “تزداد إتساعاً بوجوب إصلاح النظام، وبروز معارضة نيابية”، بالإضافة إلى “خسارة أحزاب الإسلام السياسي لمصداقيتها وفقدان جمهورها الذي بنته عبر الخطاب والتحشيد الطائفي ضد الآخر، في ظل حماية بعضها لفاسدين كبار”، ودعا قوى الإعتدال المدنية إلى استثمار ذلك من أجل إحداث التغيير المنشود. وأن التغيير في البلاد يقوم بالدعوة إلى تشكيل حكومة، محددة ومفوضة بمهام، تكون إما برئاسة رئيس الوزراء الحالي حيدر العبادي أو أي شخصية أخرى”. وذكر العطية، راعي مبادرة “موطني” التي تقوم على دعوة أطراف الاعتدال العراقي للعب دور محوري بانتخابات مجلس النواب العراقي المقبل، تكون مهمة هذه الحكومة العمل على ضمان نزاهة وعدالة وحرية الانتخابات النيابية المقبلة من خلال إعادة تشكيل مفوضية الانتخابات المستقلة، وإشراك القضاء في عملية الإشراف والتنفيذ للانتخابات.
          حزب الحق الوطني
تأسس في 17 كانون الأول 2016، يهدف الحزب الى لم الشمل والابتعاد عن الضغينة والتفرقة وتسييس الدين، والتي أضعفت الوحدة الوطنية ومزقت النسيج الاجتماعي العراقي"، وإلى تحقيق المصالحة الوطنية من خلال برنامج شامل يقضي على جميع ما خلَّفته المرحلة السابقة من دمار للمجتمع العراقي". الأمين العام للحزب النائب أحمد المساري.

-تقييم جماعات المعارضة السلمية اليوم
وكما سبق القول، في إنه لم يكن هناك معارضة سياسية عراقية بالمعنى الحقيقي لإسقاط نظام صدام حسين، فإن الأمر ذاته اليوم، فليس هناك معارضة حقيقية، وإنما مطالبة بالإمتيازات الشخصية، أكثر من المطالبة الجماعية بحقوق شعب، وسيادة دولة، وتطور أمة. وهذا ما يفَسّر تخلي الكثير من المعارضين السياسيين العراقيين بمجرد منحهم بعض المناصب والإمتيازات.
وإجمالا، تعاني معظم الجماعات العراقية المعارضة السلمية اليوم من قصور كبير، تمثّل فيما يلي: -
آ- غياب الرؤيا السياسية الشاملة
وبالتأكيد ان وجود فلسفة للتغيير أمر ضروري واساسي لا غنى عنه لكل ثورة أو حركة تغيير شعبية لكي يلتف حولها أبناء البلد الواحد ويسعون لتحقيقها. وعلى الرغم من المناداة مؤخرا بالحكم المدني، إلا إن الرؤيا ما زالت غير واضحة لدى قادة المعارضة وأنصارها.
ب‌-    ضعف التنظيم الرصين
ان واحدة من اعقد المسائل في الثورة هي مسألة تنظيم الثوار، نظرا للصعوبات التي تكتنف مسألة ضبط مجموعة من الافراد الثائرين وتوجيههم نحو الهدف. 
وعادة ما تقوم التنظيمات الثورية بهذه المهمة، وهو أمر وان كان صعب جدا، الا انه ليس بالمستحيل في الحالة العراقية. فتشكيل هيئة سياسية او حزبية تتولى مسؤولية تنظيم وقيادة الثورة في بلد معين أمر ممكن التحقيق شرط توافر عنصري التمويل المالي وقاعدة الانطلاق الجماهيرية، أي الطبقة الاجتماعية التي ستقوم الثورة على اكتافها مثل طبقة العمال او طبقة الطلاب أو الفلاحين وغير ذلك. وهذا بالطبع لا يمنع من اندلاع الثورة بشكل عفوي نتيجة احتقان الشارع جراء الظلم الاجتماعي والضغط الاقتصادي. 
ج- غياب القيادة الكاريزمية
وفي ظل أوضاع اجتماعية ونفسية كهذه، يصعب القيام بثورة دون ظهور قيادات ذات كاريزما شعبية تشحذ الهمم وتعيد ترميم الشخصية المنكسرة ثانية. وبصراحة مطلقة، فان كل الطبقة السياسية التي جلبت لحكم العراق بعد عام 2003 كانت تفتقد لهذا العنصر المهم، مما جعلها تفقد احترامها وتقديرها لدى العراقيين. ومن هنا ظهرت التبريرات الجوفاء التي تزيد العراقيين انكسارا وهو ان مشاكل العراق عصية على الحل حتى لو جاء الانبياء لحكمه. والواقع ان الانبياء هم صفوة روحية من البشر لا تصلح للحكم، وانما يصلح له رجال دولة قادرون على ادارته وفقا لأساليب عصرية. ويجب ان يظهر فهم علمي ومنطقي يحل مسألة نقل الجبل من مكان لأخر باستخدام العقل والتكنولوجيا بدلا من البحث عن حلول سحرية مختصرة.

- وسائل التغيير المنشود
ويثور التساؤل عن وسائل التغيير المتبعة من جماعات المعارضة العراقية اليوم، ومدى فاعليتها في تحقيق التغيير المنشود؟ 
·        التظاهرات، وهي مستمرة كل يوم جمعة في ساحة التحرير ببغداد، أو مجسرات ثورة العشرين في النجف، وأماكن أخرى. إلا انها غير ذي جدوى، وتأثيرها يكاد يكون معدوما، سوى في مناسبات محددة، عند انضمام التيار الصدري لها لغرض معين، ويتم اقتحام المنطقة الخضراء، كما أسلفنا. 
·        وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك من خلال إنشاء صفحات ومجموعات على الفيسبوك وتويتر وأنستغرام، وغيرها، وهي اليوم كثيرة جداً واعدادها بالمئات، ودورها ينحصر في التوعية فقط. وهذه الوسائل وإن كان لها دور كبير في إعتصامات ما سميّ بالربيع العربي. إلا إن الحالة العراقية تختلف تماما، لسبب واحد بسيط، إن العراق محكوم بدول أجنبية، والقائمون على السلطة في العراق اليوم، ليسوا حكاما بالمعنى الحقيقي، بل هم مجرد دمى على مسرح السياسة في العراق، وإن تغيير هؤلاء لن يغير الوضع ما لم يتغير النظام برمته. ورأينا إن تغيير الجعفري بالمالكي، والمالكي بالعبادي لم يؤدي الى حل لأزمات العراق الكثيرة.
·        توجيه وسائل الإعلام الى إخفاقات الحكومة وسوء إدارتها، وتسليط الضوء على ملفات الفساد الكثيرة والكبيرة، من خلال إنشاء بعض المواقع الإلكترونية، والمدونات الشخصية، ونشر المقالات والبحوث والدراسات عن ذلك.
·        إنشاء تنظيمات سياسية معينة، وهذه لا يمكن إعتبارها معارضة بالمفهوم الحقيقي، لإن تسجيلها في العراق سيجعلها خاضعة لقانون الأحزاب والتنظيمات السياسية لعام 2015، ومن شروطه التعجيزية هو دفع رسوم تسجيل الحزب البالغة قرابة خمسون ألف دولار. وهذا ما يعيق أي جماعة معارضة من تسجيل تنظيمها. ومع كل ذلك، فقد سجّلت شخصيات حكومية مثل الوزراء ونواب برلمان وتجار ما يزيد على 300 حزب سياسي حتى الآن.
·        المجموعات المغلقة، وهي جماعات تنشئ لها حلقة مغلقة لعدد من الأصدقاء الذين يتفقون في توجهاتهم. وهي أشبه بالندوات التي يتم فيها بث الشكوى وطرح الهموم وتبادل الأمنيات.

-      التأثير الدولي على الثورة
العراق، ومنذ عام 2003، قد أصبح ساحة للصراعات الدولية. وإزاء حجم التدخل الدولي الكبير هذا، فان قيام ثورة وطنية شعبية في العراق يعد امرا صعبا للغاية دون الاخذ بنظر الاعتبار تأثير تلك التدخلات الدولية ومصالحها الاستراتيجية في العراق. وفي مقدمة هذه الدول امريكا وإيران. ويمكن تشبيه مدى تأثير هاتين الدولتين على العراق كجهاز تلفاز تحتفظ امريكا بجهاز السيطرة عن بعد (الريموت كونترول)، في حين ان إيران كالمشاهد القريب من التلفاز الذي يغير قنوات الاستقبال حسب هواه دون حاجة الى الريموت. واليوم، بعد مجيء رئيس أمريكي جديد هو ترامب، فان إدارته تسعى لانتزاع الريموت العراقي من يد إيران. لذا فقد كان سبب إحجام العراقيين عن أي مطالبة فعلية بالتغيير، هو رضا الولايات المتحدة الامريكية ضمنيا عن الوضع القائم والفوضى في العراق، في عهد الإدارة السابقة برئاسة أوباما. وإنطلقت شهيّة العراقيون في التغيير بعد وصول ترامب الى رئاسة الولايات المتحدة، وإرساله هو وباقي طاقم إدارته إشارات عدم رضا الولايات المتحدة عن التدخل الإيراني في العراق. وتبدو خطوات الإدارة الأمريكية الجديدة مشجّعة للعراقيين ليعبّروا عن إمتعاضهم وعدم رضاهم عن الأوضاع في العراق.

وقد شكّل هذا العامل الدولي سابقا عنصر اعاقة لأي ثورة تسعى الى تغيير للسلطة من خلال اقتحام مقر الحكومة في المنطقة الخضراء، لوجود السفارات الاجنبية فيها وعلى رأسها السفارة الامريكية. لذا فان ارسال رسائل تطمين لها من جماعات المعارضة، هو امر ضروري لأي حركة تغيير قادمة.

لذا فان اي تنظيم سياسي او شعبي يفكر في القيام بتغيير الأوضاع السياسية في العراق، لابد من ان يضع نصب عينيه ابتداءً اسلوبا للتعامل مع هاتين الدولتين المار ذكرهما سابقا، على الرغم من صعوبة ذلك، لان الدعم الدولي امر ضروري في اي حركة تغيير سياسي.

وبدا هذا الأثر واضحا على تحركات السياسيين، فقد رأينا تحرك العديد من العراقيين -بضمنهم المشاركين في الحكومة- يتسابقون الى عواصم الدول المختلفة طلباً للمساعدة. ويدخل ضمه هذا المسعى، تحرك الجميع وتسابقهم للوصول لتلك العواصم، فالشيعة ما زالوا يهرولون الى إيران، والسُنة ما زالوا يتسابقون على الوصول الى الرياض وأنقرة وعَمان والدوحة، وغيرها. وتأتي مؤتمراتهم ضمن هذا السياق، فقد عقدوا مؤتمرا في ميونيخ وانقرة في شباط وآذار 2017.

-   معوقات التغيير في العراق
هناك جملة معوقات، تعيق أي حركة تغيير سياسي جوهري في العراق للتخلص من حالة الفوضى والتفجيرات والدمار ونهب المال العام، التي ضربت البلاد منذ 14 سنة وحتى الأن، وأهمها: -
·        إنعزال الحكومة في مقر شديد التحصين، يعرف بالمنطقة الخضراء. 
·        وجود فصائل مسلحة كثيرة، بلغ عددها أكثر من 150 فصيلا، بحسب تصريح رئيس الوزراء حيدر العبادي.
·        تدهور مستوى المعيشة في العراق، بحيث أصبح الفقر والعوز المادي من معوقات العمل السياسي المنظم.
·        وقوف المرجعيات الدينية المختلفة سواء الشيعية أو السنية، لا بل حتى المسيحية الى جانب السلطة القائمة وإضفاء الشرعية عليها حتى الان، مبررين ذلك، بقبول الظلم تجنبا للفوضى.
·        الانتخابات الصورية، فما زال الكثير من العراقيين وجماعات المعارضة السلمية، ترى إن التغيير يجب أن يتم من خلال صناديق الإقتراع. ويغيب عن هؤلاء بعض الحقائق الخافية عليهم في مسألة الانتخابات عموما، وفي العراق خصوصا. ويمكن إختصارها فيما يلي: -

-         إن النائب الجيد يقف وراءه ناخب جيد. والناخب العراقي هو ناخب عقائدي يصّوت لمرشح طائفته وعشيرته، رغم إقراره بفساده وعدم صلاحيته. وهو بهذا الوصف ليس ناخباً حراً كما يفترض هذا النظام. كما إن النظام الانتخابي الحالي لا يقوم عل أساس المواطنة، الذي يحق بموجبه لأي عراقي ترشيح نفسه للمنصب على قدم المساواة المفترضة دستورياً، لذا فما زال من المستحيل أن يحظى أي مرشح من الأقليات المسيحية أو الايزيدية أو الصابئة أو غيرها بأي منصب سيادي، بل تم تحجيمهم وفقا لنظام الكوتا الانتخابي. والاستثناء الوحيد الذي تحقق منذ عام 2003، هو منح منصب رئيس الجمهورية لمرشح كردي.

-         إن الانتخابات في العراق، كانت معيبة في المرات الثلاث التي جرت فيها للأعوام 2006 و2010و2014. ويكفي أن نذكر إنه لم يؤخذ بنتائج الانتخابات في المرتين الأخيرتين على الاقل، فقد فاز أياد علاوي ولم تمنح له السلطة، بل جددت لنوري المالكي، وفاز المالكي ثانية عام 2014، وانتزعت منه وأعطيت الى حيدر العبادي.

-         إن الانتخابات العراقية ومنذ 2003 تخضع لتأثيرات وضغوط دولية كبيرة. لذا فإن نتائجها غير وطنية تماما.

-         تلعب الجماعات والفصائل المسلحة دوراً مؤثرا فيها، وسيتعاظم دورها في الانتخابات القادمة المزمع إجراؤها في أيلول/سبتمبر القادم مستندة الى تضحياتها الكبيرة في تحرير الموصل.

·        معوقات إجتماعية، والى جانب كل المعوقات أعلاه، فهناك معوقات مترسخة في الشخصية العراقية، وهي بلا شك، مستّمدة من طبيعة الشخصية العربية والإسلامية على مّر العصور، وهي: -

1.     الشخصية الإستحواذية-الإقصائية، أي إن كل جماعة تريد الإستحواذ لذاتها، وإقصاء غيرها. وهذا هو سرّ عدم الاتفاق فيما بينهم.

2.     الشخصية التسلطية، والتي يريد كل شخص فيها أن يطبق فلسفته الخاصة، وأن يتحكّم هو وحده، على طريقة (أعطني الإمارة ولو على حجارة).

3.     الطبيعة القبلية للشخصية العراقية، والتي ترى إن قبيلتها أو عشيرتها على حق دوما، لأنها الحاضنة التي تحميها وتدافع عن حقوقها. وهذا ما يعرف عند العرب (أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً).

لذا فقد رأينا عدد من الوزراء ونواب البرلمان يعرضون خصوماتهم على عشائرهم، في الوقت الذي يجلسون تحت قبة البرلمان لتشريع القوانين. ولم يسأل أحد منهم نفسه، هذا السؤال: ما الجدوى إذا من تشريع القوانين، إذا كان أعضاء البرلمان والوزراء يحلّون خلافاتهم في مجالس عشائرهم؟

4.     تعدد الولاءات وتغييرها: فالشخصية الإسلامية قد مارست منذ البداية هذا الأمر بعد ظهور مسألة البيعة، وإعتادت على تغيير ولاءاتها الشخصية وفقا لمصالحها الشخصية، ورضوخا للقوة. وتعتبر حادثة مقتل الحسين المعروفة، خير مثال على ذلك. وهذا ما جعل جماعات المعارضة تفتقد لرجال مبادئ يصرّون على إنتزاع حقوقهم على طريقة ميرابو، خطيب الثورة الفرنسية الذي قال عند محاصرة تجمعهم في ملعب التنس بالقرب من القصر، وقال لمبعوث الملك: " قل لسيدك لن نبرح هذا المكان الا على اسنة الرماح".

وقد أشار القران الكريم الى أصحاب المبادئ، بقوله: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا. سورة الأحزاب، الآية 23.

5.     إنكار الحقوق: إن أكبر إعاقة لأي تغيير في العراق والمجتمعات العربية يكمن في مسألة انتهاك الحقوق. وق أشار القرآن الكريم الى ذلك بقوله: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ. وهذا موضوع كبير بحد ذاته، ويصعب حلّه، فقد إعتادت المجتمعات العربية أن تؤجل إيفاء الحقوق الى يوم القيامة. وهذا يعود للطبيعة العربية النهّابة والوهّابة. لذا فإنها لم تكلّف نفسها عناء الحساب، بل تركته ليوم الحساب. وهذا ما يدفع الناس للتردد في أي تغيير، لإنه لن يعطيهم حقوقهم. ويلتحق بالتغيير فقط الطامحون المندفعون نحو القفز وإنتزاع الغنائم، أو ما أصبح يعرف عراقياً ب (الفرهود).

6.     الطيبة العراقية: فالعراقيون في عمومه شعب مؤمن وطيب وخلوق ويخشى الله، وهو ما يعرقل أي حركة تغيير أو ثورة. وقد إعتاد العراقيون على المسامحة والغفران حتى لأولئك الذين أذاقوهم سوء العذاب، وإمهاله ليوم الحساب كما أسلفنا. لذا فقد كانت فلسفة التغيير تظهر من الجماعات الضعيفة كالأقليات. 

وقد أجاد الصحفي والكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل عندما وصف الوضع الحالي بقوله: ان العراق اليوم اضحى عبارة عن بنك استولى عليه مجموعة من اللصوص ليست لهم علاقة لا بالسياسة ولا بحكم ولا بإدارة الدولة! واضاف هيكل في حوار موسع ان العراق كان تركيبة جديدة وان القوى التي انشأته لم تعد تهتم به وتركته لأهله الذين يرغبون بالتماسك الداخلي فيه. ونحن نقول ان الشرفاء هم وحدهم من ينقذ العراق مما هو فيه من حالة ضياع وتشظٍ وهم كثر ان شاء الله وسوف يتصدرون المشهد السياسي عاجلاً أم آجلاً.

واخيرا، ان الثورة لا تتضمن تحريضا بل هي تصحيح لمسارات خاطئة لإعادة الامور لنصابها، وإرجاع القطار على السكّة، بعد خروجه عنها، ومهما سار فلن يزيد ذلك الأمور إلا سوءا.  واليوم تبرز الحاجة لإصلاح الأذهان قبل إصلاح الأوطان. فالتخلف آفة المجتمعات، ويجب توعية الناس على ما هو صحيح، فمهما ساد الخطأ زمنا طويلا، فلن يصحّ الا الصحيح. 


د. رياض السندي

دكتوراه في القانون الدولي

15 مارس 2017


المصادر

1.      هنري كيسنجر، النظام العالمي، ترجمة د. فاضل جتكر، بيروت 2015.

2.      الصحوة (مليشيا)، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.

3.      الاحتجاجات العراقية 2013، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.

4.      الأحزاب السياسية في العراق، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.

5.      خارطة القوى السياسية في العراق، موقع قناة الجزيرة، في 7/4/2005.

6.      العراق.. دور السنة بالعملية السياسية وخلافات الشيعة، موقع قناة الجزيرة، في17/4/2016.

7.      د. رياض السندي، الاعتصام في العراق-وجهة نظر قانونية-، موقع الحوار المتمدن في 18/3/2016.


الحمير وكلاء الله

  الحمير وكلاء الله أنا أقول دوماً ان فكرة الله هي افتراضية يفترضها البشر باعتبار ان هناك خالق لهذا الكون، اعتمادا على مبدأ ان لكل شيء سبب، ...