الخميس، 24 أكتوبر 2019

وثيقة كلدانية إلى لجنة الموصل 1925

وثيقة كلدانية إلى لجنة الموصل 1925


د. رياض السندي



تمهيد

ما يكتب اليوم لن يقرأ بتمعن إلاّ غداً. وفي مقالي السابق (وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925) أشرتُ إلى حقيقة هامة، وهي: إن مسيحيي العراق عموما (والأثوريين خصوصاً) كان لهم دور كبير في إقرار عصبة الأمم لعائدية الموصل إلى العراق، حيث تمكنت السلطات البريطانية من إستغلال معاناة المسحيين وعذاباتهم في ظل الحكم التركي، لإلحاق الموصل بالعراق، لا سيّما وإن مجازر الأرمن والمسيحيين عامي 1915 و1917 في الدولة العثمانية كانت وما زالت ماثلة في الأذهان.

ودون التقليل من أدوار بقية المكونات العراقية الأخرى التي ناضلت من أجل بقاء الموصل ضمن دولة العراق الحديث، إلا إن العرب والأكراد والتركمان تمتعوا بدعم محدود من السلطات التركية نظراً للتقارب الديني بينهما، في ظل الدولة العثمانية الدينية، ما داموا لا يطالبون بالإنفصال عنها. بينما ظهرت بعد الحرب العالمية الأولى، مشكلة جديدة، هي مشكلة الأقليات التي بدأت تطرح بقوة في الأروقة الدولية.



-      إستثمار عذابات الأخرين

والواقع، إن بريطانيا إستطاعت بمهارة أن تلحق لواء الموصل بالعراق، مستفيدة من عذابات المسيحيين ومآسيهم الأخيرة مع الدولة العثمانية، دون أن تمنح هؤلاء المساكين شيئاً من حقوقهم، كما أشرنا، والحوار الذي دار بين ممثل بريطانيا السر برسي كوكس، وممثل تركيا فتحي بك[1] في مؤتمر القسطنطينية لعام 1924 يُبين ذلك بوضوح. فقد كانت بريطانيا ترغب في ضم مناطق الأشوريين إلى العراق ضمن حدود لواء الموصل، وذلك لحماية الأشوريين وتطمينهم، والوفاء لخدماتهم، بينما كانت تركيا تنظر في إمكانية عودتهم إلى مناطقهم الأصلية في حكارى بتركيا كمواطنين أتراك، على مضض. وفي جلسة الحادي والعشرين من آيار لعام 1924، صرَّح فتحي بك أثناء مناقشة مسألة الأشوريين لتحديد حدود العراق الشمالية في لواء الموصل، معترضاً على المقترحات البريطانية قائلا:  

" أرغب في التعقيب على هذا، بأن النساطرة سيجدون في البلاد التركية كل ما ينشدون من إستقرار ورفاه وطمأنينة سبق لهم أن تمتعوا بها في الماضي شريطة ألا يكرروا الأخطاء التي إرتكبوها بتحريض من الأجانب في مفتتح الحرب العامة". [2]

فرَدّ عليه السر بيرسي كوكس بشيء من السخرية، قائلا:

" إن زعم (فتحي بك) بأن النساطرة سيجدون في البلاد التركية كل ما ينشدون من إستقرار ورفاه وطمأنينة سبق لهم أن تمتعوا بها في الماضي شريطة ألا يكرروا الأخطاء التي إرتكبوها بتحريض من الأجانب في مفتتح الحرب العامة، هو زعم لا يتفق مطلقاً مع وجهات النظر النسطورية فذاكرتهم قوية جداً بعكس ذاكرة (فتحي بك) حول شكل المعاملة التي لقوها على يد الترك في الماضي". [3]

وهكذا إستثمرت بريطانيا آلام المسيحيين لتدر عليها ملايين الدولارات طيلة 44 عاماً، وكان نفط الموصل هو العامل الحاسم في هذه القضية.



-   وثائق عراقية في أرشيف العصبة

يضم أرشيف عصبة الأمم عدداً كبيراً من الوثائق التي تلقي الضوء على تلك الفترة المهمة والحساسة من تاريخ العراق.

وللأسف الشديد، لم يجري تسليط الضوء عليها، وتقديمها لعموم العراقيين. ولم يتناولها إلا القلة من الباحثين لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، وحتى الدبلوماسيين العراقيين العاملين في بعثة العراق الدائمة لدى الأمم المتحدة في جنيف ومنذ إنشاء البعثة المذكورة عام 1933 وإلى يومنا هذا، فإن أحداً منهم لم يكلف نفسه عناء الإطلاع عليها ونشرها، وقد مرَّ على هذه البعثة عدداً كبيرا منهم يقارب الألف دبلوماسي، منذ 86 عاماً، ناهيك عن عشرات الألوف من الوفود العراقية التي زارت في الماضي، وتزور مقر الأمم المتحدة هناك، حتى الآن.
https://drive.google.com/file/d/1b-WMrMzRucuMipnkiuB3zVnmNH-UjnvI/view?usp=drivesdk
https://drive.google.com/file/d/1b-WMrMzRucuMipnkiuB3zVnmNH-UjnvI/view?usp=drivesdk


-   وثيقة كلدانية إلى لجنة الموصل

من بين الوثائق المحفوظة في أرشيف الأمم المتحدة، وثيقة كتبت باللغة الفرنسية وبخط اليد بشكل أنيق وراقٍ، لا أظن أن أحد من دبلوماسيينا اليوم -بحسب خبرتي- يستطيع ذلك. وهذه الوثيقة مرسلة من المطران يوسف غنيمة [4] (البطريرك فيما بعد) بصفته نائباً بطريركياً عن البطريرك الكلداني في العراق يوسف عمانوئيل توما [5]، إلى سكرتير لجنة عصبة الأمم حول قضية الموصل، يطلب فيها عقد لقاء مع يوسف عمانوئيل الثاني بطريرك الكلدان في العراق، وفقاً لليوم والوقت الذي تحدده اللجنة بما يناسبها. ومن المؤكد إن موضوع اللقاء هو قضية عائدية الموصل للعراق ورأي العراقيين الكلدان في ذلك.



-   ترجمة الرسالة

بطريركية بابل الكلدانية

                                                                                                                                                           الموصل في 28 كانون الثاني/ يناير 1925

السيد الأمين العام

    إن غبطة المونسنيور يوسف عمانوئيل توما، بطريرك بابل على الكلدان، حريص على إجراء مقابلة مع اللجنة الموقرة لعصبة الأمم، وقد أوعز لي أن أطلب منكم، يا سيادة الأمين العام، أن تكونوا على استعداد لتحديد اليوم والوقت المناسب لهذا الغرض.

      وشكراً لكم مقدما، سيدي الأمين العام، أرجو أن تقبلوا فائق تقديري.

 يوسف غنيمة

النائب العام- بطريرك الكلدان



-   حيثيات الرسالة

لا يُشكِّل توجيه الرسالة بتوقيع النائب البطريركي أية مثلبَة أو خللا بروتوكولياً، كما لا يشكل طلب البطريركية من لجنة الموصل التابعة لعصبة الأمم بزيارة البطريرك وفق الموعد المناسب للجنة، إذا ما علمنا أن البطريرك يوسف عمانوئيل كان بعمر 73 عاماً آنذاك، وكانت فترة خدمته في منصب البطريركية من أقسى الفترات وأصعبها، لا سيّما وإنها شهدت مذابح للمسيحيين في تركيا، وحرباً كونية عظمى على الصعيد العالمي.

ولا تسعفنا وثائق العصبة ومحفوظاتها في أرشيف الأمم المتحدة اليوم ما يفيد بتحقق ذلك اللقاء وتاريخه، ناهيك عما دار فيه من نقاش. ولكن من المؤكد أن ذلك اللقاء قد تحقق في شهر شباط 1925، وإن البطريرك المذكور قد نَقل – وبما لا يقبل الشَك- إلى اللجنة بحضور نائبه غنيمة، رغبة طائفة الكلدان في ضَم الموصل إلى العراق. فالموصل تشكل بالنسبة للكلدان ولعموم المسيحيين حتى في تركيا قلعة حصينة لهم، كما إن فيها المقر البطريركي لطائفة الكلدان، الذي لم ينقل إلاّ في عهد خلفه غنيمة نفسه بعد عام 1950، إضافة إلى مقار طوائف أخرى كالأثوريين الذين نقلوا مقرهم البطريركي إليها بعد عام 1921، وغلق مخيم بعقوبة للاجئين الأثوريين. وقد كان لواء الموصل مقصد جميع البعثات التبشيرية إلى العراق منذ القرن السابع عشر الميلادي.

وهذا الموقف ليس غريباً، فقد وقفه البطريرك ذاته ووجهاء طائفته عام 1919 في الإستفتاء الذي أجرته سلطات الاحتلال البريطاني آنذاك، لإستطلاع رأي سكان البلاد في شكل الحكم الذي يريدونه، والمتضمن إبداء الرأي في ثلاثة أسئلة، كانت اللجنة تقلبها كما تشاء، مراعاة لمصلحة بريطانيا العظمى[6]، هي: -

أولا. ولاية الموصل هل يمكن فكّها من العراق؟ أو، هل تميلون إلى أن يكون العراق مملكة واحدة من شمال الموصل إلى خليج فارس؟

ثانيا. هل تحبون أمير عربي تحت حماية بريطانيا؟ أو، هل من المناسب أن تكون هذه المملكة الجديدة تحت أسم إمارة أمير عربي؟

ثالثا. من هو يكون الأمير؟ أو، إذا أردتم ذلك فمن ترونه مناسباً لهذه الإمارة في مستقبل العراق؟

وقد أقر الكلدان الكاثوليك في الموصل برغبتهم في البقاء هم ومدينتهم طبعاً (الموصل) تحت ظِل بريطانيا دون تحديد الأمير العربي الذي يرغبون به.

ومازال هذا الإقرار محفوظ لدى الأمم المتحدة لتوقيع البطريرك الكلداني وعدد من وجهاء المسيحيين الكلدان في الموصل، تخت عنوان "إقرار نمرة 14 (1) الموصل" وبأسم (إقرارات من أفاضل الكلدان الكاثوليك بقسم الموصل) موجّه إلى (حضرة صاحب السعادة الحاكم السياسي البريطاني الكولونيل لچمن الأفخم)، ومضمونه كما يلي:

" نحن جماعة الكلدان الكاثوليك نقدم تشكراتنا لحكومة بريطانيه العظمى حتى نقدر نظير سائر الشعوب أن تعيش بالتقدم والنجاح والرفاهية داعيين على الدوام لجلالة الملك جورج الخامس بطول العمر السعيد

                   في 6 يناير 1919                                                        بطريرك الكلدان عمانوئيل

المؤيدون: بطرس إلياس بزوعي، ونمرود رسام، وسليمان بولص، ويوسف نعمان الحلها، وشڤاني داود، ويوسف تمو، وشابور رسام، ويعقوب يوسف لموزه، وإنطوان غنيمة، وفتح الله بزوعي، وإيليا رسام، ويعقوب شعيا، والشماس توما فتح التوم، وإنطوان رسام، وتوما رفق العون، وعبد الله يونان، ورؤف سليمان، وسمعان يوسف بنا، وفتح الله، وشماس يوسف حداد، وبطرس زيوني، وعبد الأحد منصور، وبطرس سمعان، وبطرس حنانيش، وفتح الله بن نعمان شماس البوه، وميخائيل قس عبد الكريم نعمان، وبطرس سحار، وعبد الحميد جزراوي، وداود سليمان غزاله، ورزق الله بطرس غزاله، وحنوش يعقوب غزالة، وموسى بن داود، وحبيب جرجس صالح، وعبد الله ميخائيل، وناصر بن جرجس، وبيشون بن سليمان، وطوبيا بن جرجس، ومجيد بن إسطيفان، وحنا بن جرجس، وصفو توزى، ويوسف مقدسي إلياس". [7]

ويلاحظ على هذا الإقرار، عدم الدقة في كتابة الأسماء، كما يلاحظ أيضا تكرار كلمة (بن) لتوكيد النسب، وهو أسلوب متَّبع عند العرب والمسلمين حتى وقت متأخر.



-      المخاطبة بالفرنسية إمتياز دبلوماسي

وجدير بالذكر، إن الكلدان الكاثوليك كانوا يستخدمون اللغة الفرنسية في مراسلاتهم الأجنبية كنوع من الإمتياز، نظراً لتفافتهم ودراستهم في المعاهد التي أنشأها الفرنسيون في الموصل، والتي تخرج منها معظم رجال الدين الكاثوليك، أو من إنضم إلى تلك المعاهد، وأشهرهم كان معهد يوحنا الحبيب[8] للآباء الدومنيكان في الدواسة. وقد كانت اللغة الفرنسية آنذاك، لغة الدبلوماسية الدولية، وظلت مهيمنة على الحقل الدبلوماسي، حتى أزاحتها اللغة الإنكليزية بعد الحرب العالمية الأولى. وقد كانت اللغة الأكثر إستخداماً في عصبة الأمم، وما زالت معظم وثائق تلك الحقبة مكتوبة بالفرنسية، والأكثر من ذلك، إنها ما زالت اللغة الثانية في مقر الأمم المتحدة في جنيف، حتى يومنا هذا. في حين يندر إن تجد في الكادر الدبلوماسي العراقي شخصاً يقف على هذه اللغة، وهذه هي إحدى أسباب معاناتهم هناك.

وعلى غرار ذلك، فقد كان الأثوريون المنشقون عن سلطة البطريرك مار شمعون يلجأون غالباً إلى السلطات الفرنسية، ويستخدمون اللغة الفرنسية تبعاً لذلك، وهكذا وجدنا إن بعض مراسلات هؤلاء مكتوبة بالفرنسية، والبعض منهم إعتنق المذهب الكاثوليكي، أو أتُهم به من قبل إخوانه الذين إنشق عنهم. في حين بقي أتباع المعسكر البريطاني يستخدمون لغتهم الأصلية السريانية، كما رأينا في المقال السابق والمشار إليه في أعلاه، ثم إستبدلوها باللغة الإنكليزية حتى يومنا هذا، وحافظوا على مذهبهم أيضاً.

وأقرب تواجد للفرنسيين من العراق هو سلطات الإنتداب الفرنسي في سوريا في ذلك الوقت، وهذا ما أغرى بعض أتباع مار شمعون إلى عبور نهر الخابور عند خلافهم مع السلطات البريطانية، واللجوء إلى السلطات الفرنسية هناك في آب/أغسطس 1933، وكان ذلك سبباً في وقوع كارثة سميل الشهيرة.



-      الموصل رأس جسد العراق

ومهما يكن من أمر، ففي 31/ 10/ 1924 قرر مجلس العصبة تشكيل لجنة تقصي الحقائق وتم الإعلان عن أسماء أعضائها، وهم:

1.     م. فرنسن، وزير مفوضية السويد في بوخارست. رئيساً

2.      الكونت تليكي العالم الجغرافي ورئيس الوزراء السابق للمجر.

3.     الكولونيل إي بولص، قائد متقاعد في الجيش البلجيكي.

وفي الـسابع عشر من تشرين الثاني من ذات العام عقدت اللجنة في جنيف أول اجتماع لها وقُرر زيارة الأطراف الثلاثة للمشكلة (بريطانيا، أنقرة، بغداد) لاستطلاع آرائهم حول مشكلة الولاية ومصيرها. وبعد زيارة الأطراف الثلاثة، توصلت اللجنة إلى اعتقاد مفاده إن اللجنة عليها الدخول إلى المنطقة للتعرف على المشكلة عن قرب وميدانياً. وقد "وصلت اللجنة بغداد في مساء الجمعة 16 كانون الثاني 1925 فكانت موضع رعاية العراقيين حكومةً وشعباً، ونزل ستة من أعضائها في دار الإعتماد البريطاني، ونزل الباقون في فنادق العاصمة".[9] وفي 27 من كانون الثاني عام 1925 وصل أعضاء اللجنة إلى ولاية الموصل، وإتخذت من قصر الشربتي في المدينة مقراً لها، وبدأت اللجنة باستطلاع أراء سكان المنطقة ورغباتهم، وتفضيلهم البقاء مع أي دولة، وتحت ظِل أي حكم، التركي أو العراقي؟ وقد كانت رغبة غالبية السكان، وفي مقدمتهم مسيحيّو العراق وبقية الأقليات بالبقاء ضمن الدولة العراقية، نظراً للفظائع التي إرتكبتها تركيا بحقهم، والطلبات المقدمة للجنة المذكورة تفيض بمعاناتهم الكبيرة. وفي 21 آذار 1925، غادرت اللجنة العراق، ثم قدمت تقريرها إلى عصبة الأمم في 16 تموز 1925، والذي جاء في (113) صفحة من القطع الكبير مع إحدى عشرة خارطة.

وقد إتخذ مجلس عصبة الأمم قراره الشهير في الاجتماع الذي عقده بتاريخ 16 كانون الأول 1925 بعائدية الموصل للعراق، مشترطاً ثلاثة شروط، وهي: -

1-     عقد إتفاقية عراقية-تركية لتحديد الحدود بينهما وفقاً لخط بروكسل المشار إليه بقرار المجلس في 29 تشرين الأول 1924.

2-     عرض إتفاقية جديدة بين بريطانيا والعراق لمدة 25 سنة، لضمان مساعدتها لإدارة العراق كدولة منتَدبة، ما لم يقبل العراق عضواً في عصبة الأمم قبل ذلك.

3-     دعوة الحكومة البريطانية إلى أن تعرض على المجلس التدابير التي ستتخذها من أجل أن تؤمن للأكراد في العراق التعهدات المتعلقة بالإدارة المحلية التي أوصت بها اللجنة في إجتماعها الأخير.

" وقد لاحظت لجنة التحقيق في الدرجة الأولى مستقبل المنطقة الشمالية، وحصرت نظرها في ترجيح الأسباب التي تضمن لهذه المنطقة في المستقبل الرقي والسعادة، وعلى هذا المبدأ بَنت حكمها الأصلي، وخلاصته:

إن سعادة هذه المنطقة أكثر إرتباطاً بالعراق منها بتركية، على شرط أن تساعد بريطانية العراق مدة ربع قرن. أما إذا حُرم العراق من هذه المساعدة، فالأضمن لمستقبل المنطقة الشمالية أن تبقى تحت السيادة التركية. كان حظ الترك بالنجاح كبيراً في بادئ الأمر، إن لم يكن في كامل القضية، ففي قسم مهم منها، لأن أعضاء مجلس عصبة الأمم كانوا حذرين من أن يظهروا بمظهر المتحامل على أمة شرقية، صيانة لأسم الجمعية ونفوذها، وهي في أول عهدها، وحريصين كل الحرص على إيجاد حل وسط يُرضي الطرفين الفريقين." [10]

وجاء في المذكرة التي رفعها عبد المحسن السعدون رئيس وزراء العراق آنذاك عن الأسباب الموجبة لعقد المعاهدة البريطانية-العراقية عام 1926 تنفيذاً لتوصية لجنة عصبة الأمم حول الموصل ومواقف الدول منها، ما يلي:

" شعَر الشعب العراقي منذ إنفراده عن حكم الترك، بما لحدوده الشمالية من تأثير عليه، وتيقّن بأن العراق إذا -لا سمح الله- حُرم من الموصل لا يستطيع أن يكون وحدة تكفل له حريته وإستقلاله، لذلك كان لا يخطو في السنين الأخيرة إلا وكان يتساءل عما سيكون من أمر الموصل، هذا لإنه يعلم -حق العلم- إن مقام الموصل من مجموع العراق، مقام الرأس من البدن". [11]

" لقد علم ممثلو الأمة في المجلس التأسيسي أن لا كيان للعراق بدون الموصل، ولا فائدة ترجى من قانون يُسن، ومعاهدة تبرم، ما دامت البلاد غير أمينة من حدودها الطبيعية. ومحتفظة بأجزائها الضرورية لسلامتها ومنعتها. لذلك أضافوا القيد المعلوم إلى تصديق المعاهدة، ودلوا به على ما للموصل من الأهمية في نفس الشعب.

وكانوا مترددين أمام إقتحام المسؤولية؛ وإعطاء حكم نهائي في قضية قد ينجم عنها ما لا يتفق مع أغراض الجمعية السلمية، ولذلك لم يدّخروا وسعاً في الوصول إلى تسوية مُرضية، بقدر الإمكان، وفي كل الأحوال كان من المتعذر -إن لم يكن من المستحيل- الوصول مع تلك الفكرة السائدة إلى قرار مقرون بإجماع الآراء، ولم يكن بعيداً عن الإحتمال – إرجاء القضية إلى أجل آخر لولا أن ساعد الأتراك أنفسهم على حلها بما أظهروه من تعنت، وتعند، وما إرتكبوه في الأيام الأخيرة من فضائع ضد السكان: من مسيحيين، ومسلمين، على الحدود، أثبتها الجنرال ليدونر في تقريره الذي قدّمه إلى مجلس العصبة، وأيده بإختباراته، ومشاهداته الشخصية، فقنط أعضاء المجلس من موقف الأتراك وأعمالهم، وساقهم ذلك إلى أن قرروا بالإجماع جعل خط بروكسل حداً فاصلاً بين العراق وتركية، ولكنهم في نفس الوقت قيدوا قرارهم بالشروط الثلاثة المعلومة." [12]

وهكذا يرى رئيس وزراء العراق إن تعنت الأتراك وعنادهم، وما إرتكبوه في الأيام الأخيرة من فضائع ضد السكان: من مسيحيين، ومسلمين، كانت السبب الذي ساق اللجنة إلى إقرار عائدية الموصل للعراق، واعتبار خط بروكسل هو خط الحدود الفاصل بين البلدين. والأكثر من ذلك، فقد قَدّم الفظائع التي حلَت بالمسيحيين على تلك التي حَلّت بالمسلمين، لأن الأولى أكثر وأقسى وأبشع.

وكان الملك فيصل الأول يرغب في دمج ولاية الموصل بالعراق لتحيق التوازن المذهبي بين السُنّة والشيعة في العراق، حيث " أراد فيصل الأول دمج ولاية الموصل بالعراق، نظراً لغالبية السكان السنية، وأعتقد أنه بحاجة لها لتحقيق التوازن مع السكان الشيعة." [13]

وفي البحث الذي كتبه القانوني المعروف الفقيه الأميركي كوينسي رايت عام 1926 عن نزاع الموصل في المجلة الأمريكية للقانون الدولي، خَلص إلى ما يلي:

" إن قرار (العصبة) من الناحية الواقعية قد قام أساساً على مبادئ الجنسية وتقرير المصير اللذان حظيا بشعبية متزايدة كمبادئ للتسوية السياسية خلال القرن التاسع عشر، وخاصة منذ الحرب العالمية. ويبدو إن الأتراك قد أدركوا أولوية هذه المبادئ في مطالبتهم بالإستفتاء، لكن البريطانيين قالوا إن الإستفتاء سيكون غير عملي نظراً للظروف الاجتماعية والتعليمية للسكان، وسوف لن يضيف شيئاً للمعلومات المتاحة سلفاً لهويتهم الوطنية ورغباتهم." [14]



-      ما هي نتائج اللقاء بين بطريرك الكلدان واللجنة الأممية

لا تسعفنا وثائق الأمم المتحدة بتفاصيل اللقاء بين البطريرك الكلداني واللجنة الأممية، ولكن من المؤكد إن لقاءً كهذا قد تحقق لعدة أسباب، منها:

·        إن الكلدان الكاثوليك يشكلون أكبر طائفة مسيحية في العراق.

·        إن مقر الطائفة هو مدينة الموصل موضوع النزاع، وبالتالي فإن أخذ رأي البطريرك أمر له أهميته، ويعني الكثير للجنة الأممية في هذا المجال.

·        إن البطريرك الكلداني يعاني من الكبر، لذا فالإنتقال إليه أمر له ما يبرره.

ويبقى السؤال، ما هو موقف بطريرك الكلدان من قضية الموصل؟

من البديهي، أن البطريرك يرغب في التخلص من الحكم الديني الإسلامي للدولة العثمانية، لتعارضه معه من حيث إختلاف الدين. كما إن البطريرك يرغب ببقاء العراق تحت الحكم البريطاني نظراً للتقارب الديني، كما سبق للبطريرك إن عبَّر عن ذلك الموقف في الإستفتاء الذي أجرته بريطانيا من خلال مندوبها السامي أرنولد ويلسن عام 1918، برسالته المؤرخة في 6 كانون الثاني/يناير 1919 والموجهة إلى الحاكم السياسي البريطاني في الموصل الكولونيل لچمن، السالفة الذكر.

وأخيراً، فإن موقف البطريرك كان بالتأكيد مع ضم الموصل للعراق، لإنها الحصن الأخير لمسيحيي العراق عموما، والكلدان خصوصا منذ أكثر من سبعة قرون، وهي مدينة التعايش الإسلامي-المسيحي طيلة هذه الفترة، وبقيت كذلك رغم تقلبات الزمن، حتى حزيران عام 2014 عندما سقطت الموصل بيد تنظيم دولة الخلافة الإسلامية (داعش) فأكره المسيحيون على مغادرتها.

وقد أخذت اللجنة بنظر الإعتبار وجهة النظر تلك، خاصة وإن الكلدان كانوا من السباقين لإكتساب الجنسية العراقية، ووقوفهم مع دولة العراق الحديث، إلى جانب حكومة الملك فيصل الأول، مما حدا بالملك إلى تسمية البطريرك يوسف عمانوئيل عيناً في مجلس الأعيان الملكي الأول بإرادة ملكية صدرت بتاريخ 25 تموز 1925 من بين 20 عينا في العراق. كما إن نائب البطريرك المذكور يوسف غنيمة (البطريرك لاحقاً) أصبح عضوا في مجلس الأعيان العراقي منذ العام 1951 وحتى سقوط الملكية في العراق بقيام الجمهورية في تموز 1958.


د. رياض السندي

كاليفورنيا في 28 أيلول/سبتمبر 2109



[1] ولد علي فتحي بن إسماعيل بن حقي في مدينة (Pirelepe) المقدونية، والتي كانت تابعة للدولة العثمانية، في التاسع والعشرين من نيسان عام 1880، فهو من أصل مقدوني. حصل علي فتحي على اللقب أوكيار من قبل صديقهُ مصطفى كمال أتاتورك وبخط يده في عام 1930... سافر علي فتحي أوكيار بعد أتمام تعليمه الثانوي إلى مدينة سالونيك (Saloniki) للالتحاق بالأكاديمية الحربية عام 1898، ليتخرج منها ضابطا ً. وإلى جانب عمله العسكري، بدأ أوكيار التفكير بالدخول إلى العمل السياسي في وقت كانت فيه فتره حكم السلطان العثماني عبد الحميد الثاني في أوج قوتها، أنظم إلى جمعية الاتحاد والترقي في السابع والعشرين من أيلول عام 1907. في الثاني عشر من كانون الثاني عام 1913 عُين علي فتحي اوكيار مسؤولاً في الملحقية العسكرية العثمانية بباريس، وما لبث إن ترقى في آذار من العام نفسه إلى رتبة نقيب. وفي نهاية حروب البلقان الثانية شارك أوكيار عن الدولة العثمانية في عقد معاهدة بخارست مع البلغار في العاشر من آب 1913. وبانتهاء حروب البلقان الثانية قرر أوكيار إنهاء واعتزال العمل العسكري في الرابع عشر من أيلول عام 1913، والتفرغ للعمل السياسي ليتولى بعد ذلك مهام الأمين العام لجمعية الاتحاد والترقي في العشرين من أيلول عام 1913. بعد انتخاب مصطفى كمال أتاتورك رئيساً للجمهورية التركية، تم انتخاب اوكيار لرئاسة المجلس الوطني التركي الكبير في الثلاثين من تشرين الأول عام 1923، ليأخذ على عاتقة مهمة استكمال المفاوضات البريطانية التركية حول عائديه ولاية الموصل التي لم تحل بموجب مؤتمر لوزان، الذي ضمن إجراء مفاوضات ثانية بين الطرفين من اجل التوصل إلى تسوية نهاية لمشكلة الموصل وإذا ما فشل الطرفان في ذلك ترفع المشكلة إلى مجلس عصبة الأمم. أتفق الجانبان البريطاني والتركي على استئناف المفاوضات من جديد من خلال عقد مؤتمر يجمع الطرفين. وبالفعل بدأت المفاوضات في التاسع عشر من أيار عام 1923 في البناية القديمة للبحرية العثمانية بأستانبول، فعرفت تلك المفاوضات بمؤتمر القسطنطينية الذي لم يستمر طويلاً. وقد مثل الجانب البريطاني السير برسي كوكس ((Sir Percy Cox المندوب السامي البريطاني في العراق وآر. أف. جاردين(R.F. Jardin) المفتش الإداري البريطاني في الموصل ويرافقهم طه الهاشمي رئيس أركان الجيش العراقي بصفة مستشار عسكري عراقي والمترجم ماتيوس  (Matuos). أما الجانب التركي فتألف من علي فتحي رئيساً للوفد المفاوض وكاظم قرة بكر ناظر الحربية السابق وفوزي جاكماق بك مبعوث ديار بكر وفائق بك مندوب الجيش ونصرت إسماعيل المستشار القانوني للخارجية والعقيد أسحق أفينيIshak Avini) ). أنظر، ا.م.د. سرمد عكيدي فتحي و د. أمجد محمد علي المشهداني و ا.م.د. وفاء عدنان حميد، علي فتحي أوكيار ودوره بالمفاوضات التركية البريطانية عام 1924، بحث مقدم إلى المؤتمر العلمي الدولي العاشر، 25-26 تموز 2016 إسطنبول - تركيا. ص ص 458-470.
[2] جرجيس فتح الله، نظرات في القومية العربية مداً وجزراً حتى العام 1970، الجزء الرابع، أربيل 2004، ص 1739.
[3] نفس المصدر.
[4] البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني، ولد في القوش في 30 تموز 1852، ولدى ذهاب البطريرك يوسف أودو سنة 1869 إلى روما للاشتراك في المجمع الفاتيكاني الأول. أخذه معه إلى لبنان وادخله مدرسة الآباء اليسوعيين في الغزي، وعاد إلى بلاده سنة 1879 ـ في 10 تموز 1879 رسم كاهنا وعيّن أمين سر لدى البطريرك، إيليا عبو اليونان، وكلف بإدارة مدرسة استحدثتها الطائفة في الموصل، ومديرا للإكليريكية البطريركية التي افتتحت حديثا في الموصل، وكان يلقي أيضا دروسا في مدرسة الآباء الدومنيكان، وأسس جمعية الرحمة لمساعدة الأيتام و الفقراء، وفي نحو سنة 1890 رسم خوراسقفا، ورافق البطريرك .في رحلة إلى الغرب لزيارة البابا لاون الثالث عشر، وهناك تم تعيينه اسقفا لأبرشية سعرد في 4 أيلول 1890، وجرت رسامته في 24 تموز 1892 في الموصل مع ارميا (طيموثاوس) مقدسي اسقف زاخو، ودُعي اسمه يوسف عمانوئيل توما، وقام برحلة إلى الغرب لجمع المساعدات لأبرشيته المحتاجة، وأسس في سعرد مدرسة أسهمت في إنعاش الأبرشية، وحينما توفي البطريرك عبد يشوع خياط في بغداد في 6/11/1899 عقد الأساقفة مجمعا في الموصل في 9 تموز 1900. اسفر عن انتخاب يوسف عمانوئيل بطريركا، ونصب في 24 تموز وثبت في17 أيلول 1900 ونال الفرمان السلطاني في 26/12/1901، بعد جهد جهيد وتدخل جهات عديدة، أما موقفه إبان الحرب الكونية الأولى فقد اتسم بالمحبة و الرحمة والسخاء الإنجيلي فوزع أمواله على الفقراء وساعد اللاجئين وافتدى الأسرى، وبذلك اكتسب إعجاب السلطات وتقديرها ونال منها الفو عن كثيرين ، وبعد الحرب توجه إلى أوروبا لشرح قضية الفقراء والمهاجرين، وأسس مدارس عديدة وجدد دير مار أوراها القريب من باطنايا، وكانت له مواقف وطنية مشهودة إبان تكوين العراق وتعيين الحدود الدولية، واعترفت له الحكومة العراقية بهذا الفضل فعينته عضو في مجلس الأعيان، توفي في الموصل في 21 تموز 1947 عن عمر يناهز الخامسة و التسعين و بشيخوخة جليلة، ودفن في كاتدرائية مسكنتة في الموصل.
[5] البطريرك يوسف السابع غنيمة، ولد في الموصل في 29/1/1881 ودخل معهد مار يوحنا الحبيب في1895 وبعد أن اكمل دراسته فيه رسم كاهنا في 15/أيار/1904، بوضع يد البطريرك يوسف عمانوئيل الثاني الذي ضمه إلى البطريركية ، وإصطحبه البطريرك إلى روما سنة 1909 ثم ولاه إدارة المعهد الكهنوتي البطريركي خلال الحرب الكونية الأولى، بعد ذلك أقامه وكيلا بطريركيا، واختاره معاونا له ومنحه الرسامة الأسقفية يوم الأحد 10/5/1925، واتخذه مستشارا خاصا له، وفي عام 1931 سافر الوكيل البطريركي إلى روما وباريس ،وعاد إلى الموصل حيث مكث إلى سنة 1939، فانتقل إلى بغداد للإشراف على إدارة شؤون البطريركية في العاصمة، وفي هذا الوقت منح لقب رئيس أساقفة ميافرقين الفخري، وجرى إنتخابه بطريركا خلفا للبطريرك يوسف عمانوئيل الراحل، وذلك في 17/9/1947 ، وتم الاحتفال بنصيبه في الموصل يوم 26/9/1947، وكان الاحتفال رائعا اشترك فيه جميع أحبار الطائفة ووجهاؤها وعلى راسهم ابن عمه يوسف رزق الله غنيمة وزير مالية العراق آنذاك، قام بزيارات عديدة لمختلف أبرشيات الطائفة و لأقطار عديدة، كان من اشد المؤيدين لإعلان عقيدة انتقال العذراء سنة 1950، وكان ينوي القيام بمشاريع عديدة لخير الطائفة، إلا إن المرض الذي انتابه سنة 1949 حد كثيرا من نشاطاته، رسم سبعة أساقفة، وعُني ببناء كنيسة مار يوسف في الخربندة، وقام بتكريسها، وكان عضوا في مجلس الأعيان العراقي منذ العام 1951، وكان ذا شخصية قوية ، حاد الذكاء، كثير التفكير والتأمل وقليل الكلام، إلا إن مواقفه الخطابية شهيرة وأسلوبه بليغ في كلتا اللغتين العربية و الفرنسية، انتقل إلى دار البقاء في 8/تموز/1958 وجرى الاحتفال بدفنه في كنيسة مار يوسف بعد ظهر اليوم التالي، وهو الذي نقل كرسي البطريركية إلى بغداد.
[6] وقد إعترض رئيس الوزراء العراق آنذاك ياسين الهاشمي على صيغة أسئلة وجهتها اللجنة إلى بعض الشهود، وهي:
أولا- هل تفضلون الترك أم الإنكليز؟
ثانيا- ماذا تفعلون لو إنسحب الإنكليز؟
لمزيد من التفاصيل، أنظر، عبد الرواق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، الجزء الأول، الطبعة الثانية، صيدا 1953، ص197.
[7] كراس الإستقلال في العراق (Self-Determination in IRAQ) طبق الأصل في تصريحات أهالي العراق بخصوص مستقبل العراق. أرشيف الأمم المتحدة في جنيف.
[8] أسس معهد مار يوحنا الحبيب، بحسب الأب ريشارد الدومنيكي الذي أنقل عنه هذه الشذرات، في 27 كانون ثاني 1877، يوم عيد مار يوحنا الحبيب، واستقبل أول أربعة مرشحين في 10 كانون ثاني 1878 بإدارة الأب برنارد كورماشتيك البلجيكي في بناية ملاصقة لدير الآباء الدومنيكان بمنطقة الساعة التي أخذت الاسم من الساعة الشهيرة التي بناها الدومنيكان، ثم انتقل المعهد إلى دار القصادة الرسولية بعد انتقال القصادة إلى بغداد. وتمت رسامة أول ستة كهنة في عام 1889.
في عام 1906 بلغ عدد الطلبة فيه 54 تلميذًا. ثمّ تعرّض للإغلاق خلال فترة الحرب العالمية الأولى، لغاية 1923، حينما التحق فيه 12 طالبًا فقط. وظلّ يتوسع في أعداد المرشحين له من قبل كلتا الطائفتين الكلدانية والسريانية الكاثوليكية. وبسبب هذا التطور في طلبات الالتحاق به، صار التوجّه بشراء دور جديدة مجاورة وضمّها للمبنى الرئيسي، كي تحوي عدد التلاميذ الذي قاربَ 100 تلميذ في بعض السنوات اللاحقة.
توالى على إدارة المعهد، بعد الأب كورماشتيك، الأب سبساستيان شيل، ثم الأب يوسف أومي الذي أداره طيلة 40 عامًا، بنشاطه الملحوظ وغيرته المميزة، حتى انشطاره في 1971 إلى قسمين: قسم الصغار أداره الأب ريشارد، فيما قسم الكبار أُنيط بالأب الدومنيكي كاميلو ثمّ بالأب (المطران الراحل) ميخائيل جميل.
كان المرشحون إليه يخضعون لتوصية كاهن الرعية وموافقة رئيس الكنيسة ولتقييم رئيس المعهد، بحيث كان ثلث العدد للسريان والثلثان للكلدان. وكان للمعهد قوانين خاصة صارمة، بحيث لا يصمد في نهاية المطاف سوى عدد قليل من الدارسين، قد لا يتجاوز أصابع اليد أو أقلَّ منها في بعض السنين. أما مدة الدراسة، فكانت ست سنوات لقسم الصغار، ثمّ أصبحت خمسًا، وست سنوات لقسم الكبار (سنتان لدراسة الفلسفة ومواد أخرى، وثلاث سنوات لدراسة اللاهوت مع مواد أخرى مؤازرة). وكان التلميذ الجديد يُفرض عليه تعلّم التحدث باللغة الفرنسية في الأشهر الثلاثة الأولى من دخوله المعهد، وبعدها يخضع لعقاب معيّن، لو حاول بغير ذلك. وبهذه الطريقة سهلَ تعلّم الفرنسية للجميع.
من ضمن المواد التي كانت تُدرّس في معهد مار يوحنا الحبيب، العربية والفرنسية والسريانية والكلدانية إلى جانب العلوم الدينية المختلفة من فلسفة ولاهوت وكتاب مقدّس، من التي تقدّم تنشئة عالية ترقى إلى ما كان يتلقاه أمثالُهم في معاهد غربية مماثلة.
وفي عام 1974، وبسبب تفاقم الأمور والصعوبات العديدة التي رافقت الدراسة في المعهد، قررت الجهات المعنية في الفاتيكان، إغلاق ما كان تبقى من قسم الكبار وانتقالهم إلى المعهد الكهنوتي الكلداني في بغداد، فيما واصل قسم الصغار توارده على المدارس الرسمية، لغاية 1985 حيث انتهى كلّ شيء. أنظر، معهد مار يوحنا الحبيب الدومنيكي بالموصل: نبعٌ وارفٌ من العطاء غابَ، موقع البطريركية الكلدانية، في 28 أغسطس، 2015. الرابط: https://saint-adday.com/?p=9147
[9] عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج2، مصدر سابق، ص196.
[10] مذكرة رئيس الوزراء إلى رئيس مجلس النواب ذي العدد 121 في 16 كانون الثاني 1926. أنظر، عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج2، ط 2، صيدا 1953، ص 30-7.
[11] عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج2، مصدر سابق، ص34.
[13] مشكلة الموصل، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.
[14] Quincy Wright, The Mousl Dispute, The American Journal of International Law, Vol. 20, No. 3 (Jul., 1926) pp. 455.                           

العراقيون ومعضلة البحث عن منقذ


العراقيون ومعضلة البحث عن منقذ



د. رياض السندي




مشكلة الإنسان الكبرى إنه يتمتع بخيال واسع يقيده جسد ضعيف لا يلبي طموحات خياله. وهكذا، فإن الجسد هو ثوب ضيق لروح كبيرة تسعى للانطلاق. وهذا يفسر لنا جموح الشعراء وقدرتهم على تأجيج مشاعر الجماهير، وقد وصفهم القرآن الكريم وصفاً دقيقاً بقوله: " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ. (1) وهذا يفسر لنا أيضاً رغبة الناس إلى أفلام الخيال العلمي. كما هي رغبة كل فتاة في فارس الأحلام.

وفائدة الخيال إنه متنفس الجسد في معاناته. وعندما تجد البشرية نفسها عاجزة عن دفع أي قوة قاهرة يصعب على الجسد الضعيف التخلص منها فإنهم يتقاعسون ويضعفون وتتشتت قواهم ويغزهم التمزق والتشرذم ويسيطر عليهم العجز. وهذه النتائج إنما هي أول ما تسعى إليه أي قوة عظمى، وأول قاعدة عمل لها هي (فرق تسد) أو باللاتينية (divide et impera) والإنكليزية (Divide and conquer). (2) وربما لا توضح الترجمة العربية هذا المصطلح بشكل دقيق وسلس، حيث إن الترجمة الأدق له هي (فرقهم وسيطر عليهم).

وفي ظل حالات القهر هذه والتي شهدتها مجتمعات عديدة على مّر التاريخ بسبب اعتماد القوة أساساً للتعامل في معظم الصراعات الإنسانية حتى يومنا هذا، فإن خيال الإنسان ينطلق ليقدم الحل الخيالي أو غير الواقعي. لذا فإن البشرية تنسج في خيالها تصوراً للمنقذ الذي سيأتي يوما ما، ولأنه منقذ خيالي لذا يؤجل قدومه لفترة بعيدة هي (أخر الزمان)، لينقذ هذا المجتمع البشري ويعيد له غابر مجده ويحقق له ما يريده من طموحات في الخيال، يغلب عليها الانتقام من عدوه وقهره وإذلاله.

وقد رافقت فكرة البحث عن منقذ أو مخلص معظم أصحاب الديانات السماوية في صراعهم مع القوى الأخرى بعد أن قسمهم الدين إلى مؤمنين وكفار، وساد الصراع بينهم فإضطهدهم الكفار.

وهكذا ببساطة، ظهرت فكرة المسيح الموعود لدى اليهود، أو عودة المسيح لدى المسيحيين، أو ظهور المهدي المنتظر لدى المسلمين الشيعة. وهي ناتجة عن الاضطهاد وخسارة الطرف في المنازلة. ومن البديهي أن لا تظهر هذه الفكرة عند الطرف المنتصر. (3)

 ويوصف المنقذ على إنه البارقليط (روح الحق)، ومهمته تحقيق العدل (يملا الأرض عدلا بعد أن ملئت ظلماً وجوراً)، ومن ابرز صفاته القوة، (4) متمثلة في جيش جرار من (الملائكة) على خيول بيضاء وسيوف ذي حدين. (5) والواقع إن هذه الصورة النمطية تقترب من صورة فارس الأحلام لكل فتاة عند الزواج.

ويمكن ملاحظة خصائص فكرة المنقذ، وهي: -

1.     إنها وجدت لدى الطرف الخاسر.

2.     يصعب إثباتها على أرض الواقع.

3.     إنها قاصرة على استخدام القوة البدنية، كما إستخدمها عدوهم من قبل.

4.     غايتها إعادة التوازن للحياة وتحقيق العدل وإزالة الظلم.

5.     أن ذلك سيجري في أخر الزمان.

إن مفهوم القوة في فكرة المنقذ أو المخلص هو مفهوم قاصر على القوة البدنية (الجسدية) ومنها يشتق مفهوم القوة العسكرية، وهو مفهوم بدائي رافق بدايات تطور الفكر البشري، وهذا ما نجده عند الأطفال الذين يتبارون ويتفاخرون أثناء منازعاتهم بقوة آباءهم وأقربائهم، أو عند الرياضيين مفتولي العضلات. ألا إن التطور البشري أوجد أنواع أخرى من القوة، مثل قوة المال (القوة الاقتصادية)، أو قوة العلم (التكنولوجيا). وربما تظهر لاحقاً أنواع أخرى بفعل التطور.

والعراقيون ومنذ سقوط عاصمتهم بغداد في 9 نيسان/أبريل 2003، وهي قلعة حصينة من قلاع الشرق الأوسط لا تضاهيها سوى القاهرة، وما رافق ذلك السقوط من الدمار والقتل والتهجير وتبديد الثروات وسرقة الآثار، مما ولّد لديهم شعوراً من القهر والخسارة والخذلان. وإستمر شعور المرارة هذا يتزايد عندهم حتى بلغ حده بعد 13 سنة عجاف. فأخذت أبصارهم ترنو إلى منقذ يخلصهم من معاناتهم هذه.

وفي خضم البحث عن منقذ، انقسم الناس إلى من يتمنى الرجوع إلى لحظة ما قبل السقوط، حيث يرى هذا الفريق إن ذلك الزمن هو الأجمل، ويحلم بالعودة إلى (الزمن الجميل)، ويصفهم خصومهم بالدعوة الى نظام (البعث) السابق. ويرى فريق معارض (فريق السلطة) بإعطاء فرصة أكبر لحكام اليوم بالتجريب والتعلم على حساب الشعب (التجريبين) على أمل الإصلاح البطيء يوما ما. ويرى فريق أخر بضرورة التريث والانتظار لحين تحسن الأوضاع، وهذا الفريق هو فريق (القدريين) الذين يومنون بالقضاء والقدر. والجميع ينتظر المنقذ القادم.

إلاّ أن العراقيين- وللأسف- وقعوا بنفس الخطأ الذي وقع فيه اليهود قبل أكثر من 2500 سنة، حين رسموا في خيالهم صورة المخلص الذي سمّوه "المسيح" أي الممسوح بالدهن المقدس. (6) في إشارة لتمتعه بالسلطة، حيث صوروه بأنه شخص قوي من نسل الملوك (الملك داود) مولود من امرأة بلا زواج، وهو يمتاز بقوة جبارة يقضي بها على خصومهم وأعداءهم ويسلمهم لهم لإذلالهم وإهانتهم ومحاسبتهم لما فعلوه بهم. وهذا هو سبب رفضهم يسوع الناصري، وأنكروا أن يكون المسيح، فتعاليمه تدعو لمحبة الأعداء والتسامح معهم وغفران ذنوبهم وعدم مقاومة القوة بالقوة. (7)  ومن الطبيعي ألا يناسب هذا الكلام أي مظلوم أو مضطهد، لذا رفضه اليهود وحاربوه ووشوا به لدى الحاكم الروماني الذي كان يضطهدهم، ومازالوا حتى اللحظة ينتظرون مجيء المسيح. وبعضهم قال إن بن غوريون هو المسيح الموعود.

وإذا استعرضنا تاريخ حكام دولة العراق الحديث التي قامت عام 1921، فإن كل حكامها كانوا مفروضين من الخارج وجاءوا وفقاً لإرادات دولية بإستثناء عبد الكريم قاسم الذي فأجأ الجميع بسرعته، ولم يثبت عنه حتى الآن ارتباطه بأي أجندة دولية خارج العراق، وكل ما يرد في تاريخه هو فقط لقاءه بعد الثورة بساعات بالسفير الأميركي في بغداد بناءً على طلب الأخير، ولا توجد أي معلومات عن هذا اللقاء. ففي الحكم الملكي، فأن فيصل بن الحسين وابنه غازي وحفيده فيصل الثاني قد جلبهم البريطانيون من الحجاز لحكم العراق. أما الأخوين عارف، عبد السلام عبد الرحمن، فأن دعم الغرب لهما كان واضحاً عبر جمهورية مصر العربية أيام عبد الناصر. أما مجيء حزب البعث إلى السلطة في العراق، فأن عبارة أول مسؤول لحزب البعث فؤاد الركابي واضحة عندما قال: لقد جئنا على قطار أمريكي، وعلاقة صدام بالولايات المتحدة ليست أكثر من علاقة تلميذ مشاغب أسقطه أستاذه بخطة طويلة. أما سياسيو عراق اليوم فقد جاءوا على ظهور الدبابات الأمريكية عام 2003 وجنسياتهم الأجنبية معروفة.

وهذا يفسر لنا ما يردده المواطن العراقي البسيط ومنذ زمن بعيد بانه "لم يأتينا شريف لحكم العراق" وأعتقد إن المقصود بالحاكم الشريف هو العراقي الوطني، المخلص، الشجاع، المستقل، النزيه والعادل.

وهكذا نجد العراقيين يندفعون نحو أي شخص تتوفر فيه هذه الصفات. ورأينا كيف إندفعت الجماهير نحو السيد مقتدى الصدر وإقتحموا المجلس الوطني (البرلمان) في 30 نيسان 2016، ثم اقتحموا بعد عدة أيام مبنى رئاسة مجلس الوزراء. وأخيرا هتفت الناس يوم 1 آب/أغسطس من هذا العام للسيد خالد العبيدي وزير الدفاع العراقي عند إستجوابه في البرلمان عندما كشف بشجاعة وصدق ملفات كثيرة لفساد بعض النواب.

وفي الواقع، فإن المسألة ليست بهذه البساطة. فالحاكم ليس إلا فردا، وهو مهما أوتي من قدرات فإنه لا يستطيع أن يغير الأوضاع كالساحر. وحسبه أن يملك في أفضل الأحوال في تصوره خطة يسعى لتطبيقها بمساعدة الشعب ومستخدماً في الوقت ذاته قوة القانون بحسب مقتضى الأحوال.

وفي وضع العراق الحالي فإن الحاكم الجديد سيواجه كم هائل من المشاكل التي ستفشل مهمته وعليه مواجهتها والتخلص منها إذا ما أراد لها أن يكتب لها النجاح.

واولى المشاكل التي عليه مواجهتها والتصدي لها هو مشكلة التدخلات الدولية. وهذا يتطلب فرض سياسة متشددة بعض الشيء داخلياً. فمعظم سياسيي عراق اليوم مرتبطين بدولة أو عدة دول أخرى، وليس سراً أن تراهم يسافرون ويتصلون ويقابلون مسؤولي هذه الدول علناً، وينسقون معهم ويخضعون لتوجيهاتهم لضمان مصالحهم حتى لو تعارضت ضد مصالح دولتهم. والأكثر من ذلك، أن الكثير منهم قد فتح قنصليات لهذه الدول في محافظاتهم، ويتحينون الفرصة لتحويلها إلى سفارات بمجرد استقلالهم كدول جديدة.

وفي ظل حالة كهذه كيف يستطيع أي رئيس جديد أن يقنع الأكراد بعدم الذهاب إلى أميركا، ويقنع الشيعة بعدم الذهاب إلى إيران، ويقنع السنة بعدم مراجعة السعودية، ويقنع التركمان بعدم التنسيق مع تركيا، ويقنع المسيحيين بعدم مخاطبة الفاتيكان. إنها حقاً معضلة كبيرة.

وثاني المشاكل التي على المنقذ القادم أن يواجهها، وكما تصورها فكرة المهدي المنتظر في محاربة رجال الدين الذين أساءوا استخدامه لغايات خاصة، هي مشكلة الدين، وهذه المشكلة هي الأصعب والأعقد وهي بمثابة العقدة في المنشار. فالمعروف عن الشعب العراقي إنه شعب متدين، بدليل كثرة المزارات والمساجد والكنائس وغيرها. وكثيرا ما تختلط المفاهيم الدينية بالسياسة وأمور الحكم. وهذا يشكل عائقاً كبيراً أمام أي حاكم للعراق يسعى لتطويره وجعله دولة مدنية مثالية. ففي مختلف المناسبات الدينية وما أكثرها، (8) فإن غالبية موظفي الدولة يعطلون عن الدوام الرسمي، دون موافقة الدولة، كل مؤسسات الدولة والمصانع بما يعطل الحياة العامة ويلحق الضرر بالدولة عموماً. والغريب، أن العديد من الدول تسعى لتشجيع هذا التوجه الديني للتأثير في المجتمع العراقي، وقد شهدت بنفسي قيام السعودية بأنشاء جامع كبير في قرية مهجورة شمال العراق، ولو كانوا جادين في تحسين نمط حياة العراقيين لبنوا لهم عدد من الدور السكنية لضمان عودتهم إليها بدلا من مسجد مهجور. والأدهى من ذلك، أن دول غير مسلمة في توجهاتها كالولايات المتحدة وإسرائيل تشجع على ذلك، في ظل تغييب للعقل المجتمعي دينياً، حتى غدا الدين وسيلة للتدخل وأداة لتحريك الناس وإثارتهم يساعدهم في ذلك طبقة من رجال الدين. وقد أدرك عالم الاجتماع العراقي المعروف الدكتور علي الوردي حالة التناقض التي تعيشها مجتمعاتنا بقوله:" لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية". ويواجه إقامة الحكم المدني في العراق إسوة بالدول العربية والإسلامية مفاهيم وتصورات دينية للحكم تتناقض تماما مع الدولة المدنية، حيث تحرم هذه المفاهيم وصول غير المسلم والمرأة إلى حكم الدولة. في حين إن المجتمعات المتقدمة قد سبقتنا إلى ذلك.

المشكلة الأخرى وليست الأخيرة، وهي نمط حياة العراقيين. فالعراقي خليط من العادات والتقاليد والمفاهيم البدائية التي لا يريد تغييرها أو ليس من السهل تغييرها. وهذا النمط من الحياة يشكل عائقاً أمام التوجه الجاد للتغيير نحو الأحسن. فما زال المجتمع العربي-الإسلامي مجتمعاً ذكورياً يمجد القوة ويستخدمها أداة للتعامل اليومي حتى ضمن العائلة الواحدة. وهذا ولّد ظلما وتعسفا وقهرا تجاه الفئات الضعيفة في المجتمع كالنساء والأطفال والمعاقين. وهذا النمط تتداخل فيه تصورات دينية وأعراف مجتمعية وفلسفات غبية التي تتعارض مع مفهوم الحرية الذي ينشده كل إنسان، وتتعارض كذلك مع مفاهيم العلم أيضاً وتصل إلى حد السذاجة، فالغالبية تندهش لظل رمز ديني على حجر أكثر من إختراع دواء للسرطان. وقد سعت بعض الحكومات المتعاقبة على حكم العراق إلى وضع حلول جزئية لتحسين الصورة النمطية مثل تعيين امرأة بمنصب وزير، وما إلى ذلك، إلا إنها كانت حلولا ترقيعية لمشكلة كبيرة. إن أفضل حل لذلك هو تعليم المجتمع الذي مازال يرى نفسه عاجزا عن التقدم، كما كان الحال قبل 200سنة، وتشكل ظاهرة كتاب العرائض النمط التقليدي لمجتمع جاهل لا يعرف القراءة والكتابة رغم تعلمه.

واحد اهم جوانب نمط الحياة هذه هو الجانب الاقتصادي فيه الذي بدد ثروات كثيرة كان بالإمكان الاستفادة منها لاحقاً. فالعراقيون على خلاف مع الاقتصاد، وينتقدون الشخص الاقتصادي ويتندرون به. وحتى اليوم فالعراقيون مازالوا مسرفين عند وجود أي ضيف أينما كانوا. وعلى العكس نجد إن المجتمعات المتقدمة تقتصد حتى في الماء، وكل من سافر إلى إحدى دول الغرب لابد وان يتذكر إنقطاع الماء بعد عشر ثوان في أي مكان عام للاغتسال. وربما يعود التبذير إلى روح الغنائم والخراج المتأصلة في المجتمعات العربية-الإسلامية حيث إن الأموال ترد بسهولة لذا يسهل إنفاقها، إضافة لظهور النفط في الدول العربية، وهو مصدر ثراء سهل.

فما الحل إذا في ظل هذه الصورة القاتمة؟

إبتداءً، أن الحل هو بمنقذ جماعي، فعمل الدولة، ليس عملا فردياً بل هو عمل جماعي يتشارك فيه جميع أفراد الشعب لتحقيق الدولة المثلى.

ثانيا. يجب وضع تصور عام لشكل الحياة المطلوب إقامتها في العراق، معتمداً على آخر التطورات والتجارب البشرية في العالم، مع مراعاة الخصوصية الشرقية ومؤامتها مع التطور المنشود.

ثالثا. إعتماد العلم أساسا لهذا التطور، وهذا يقتضي إعطاء دور أكبر للعلماء وتقديمهم عند التنافس.

رابعاً. التخلص من المفاهيم البالية التي تعيق هذا التطور وترسخ حالة الاستبداد والقهر.

خامسا. مراعاة حقوق الأخرين بغض النظر عن دينهم وقوميتهم وجنسهم ولون بشرتهم وحالتهم الاجتماعية.

وأخيراً، وبعد إدخال العراق في دوامة الصراع المذهبي الشيعي-السني خلال أكثر من عقد مضى، فإن البحث عن منقذ يجب أن يكون من خارج هذه الدائرة، شرط أن يكون عراقياً وطنياً مستقلاً عادلا وحازماً ومؤسسا لحكومة مدنية شاملة، يحافظ على وحدة العراق ولا يسعى لتقسيمه، في محاولة أخيرة لإبعاد شبح التقسيم والتجزئة التي تسعى لها أطراف عراقية عديدة إنسياقاً لأجندات دولية.



د. رياض السندي

دكتوراه في القانون الدولي

جنيف- سويسرا





الهوامش والمصادر

  1. القرآن الكريم، سورة الشعراء.
  2. فَرِّق تَسُدْ هو مصطلح سياسي عسكري اقتصادي الأصل اللاتيني له"divide et impera". ويعني تفريق قوة الخصم الكبيرة إلى أقسام متفرقة لتصبح أقل قوة وهي غير متحدة مع بعضها البعض مما يسهل التعامل معها كذلك يتطرق المصطلح للقوى المتفرقة التي لم يسبق أن اتحدت والتي يراد منعها من الاتحاد وتشكيل قوة كبيرة يصعب التعامل معها. وسياسة فرق تسد ليست بسياسة جديدة بل هي قديمة قدم السياسة نفسها حيث طبقها السومريون والمصريون واليونانيون القدماء لتفكيك قوى أعدائهم وتحييد هذه القوى من خلال توجيهها داخليا واحدة ضد الأخرى. والاستعمار في شكله الحالي ومنذ نشأته في بداية سبعينات القرن التاسع عشر طبق هذا الأسلوب القديم في السياسة لنفس الأغراض والأهداف ومن أجل إضفاء الشرعية على احتلاله لبلد ما من خلال الظهور. ويبدو أن سياسة فرق تسد تأتي بعد مرحلة فرق تغزو، لأن استعباد شعب ما والاستيلاء على أراضيه وثرواته يتطلب أولاً إنهاك قواها العسكرية والاقتصادية لغرض تسهيل العملية وتقليص تكاليفها. وهذا يتم عادة من خلال إثارة الفتنة الطائفية والتحريض على العنصرية ونشر روح الانتقام بين الطوائف والطبقات المكونة لهذا الشعب وإشعال حروب داخلية وخارجية تنتهى بإنهاك قوى كافة الأطراف. ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
  3. الفارقليط (باليونانية: παράκλητος) (باللاتينية: paracletus) مصطلح يوناني كويني يعني المعين، استخدم في العهد الجديد للإشارة إلى الروح القدس في المسيحية.
  4. 11 الأمين الصادق: ثُمَّ رَأيتُ السَّماءَ مَفتُوحَةً، وإذا بجَوادٌ أبيَضُ، وَالرَّاكبُ عَلَيهِ يُدعَى "الأمين الصادق"، الذي يحكم بِالعَدلِ وَيُحارِبُ. 12 عَيناهُ كَنارٍ مُلتَهِبَةٍ، وَعَلَى رَأسِهِ تِيجانٍ كثيرة. لَهُ أسْمٌاء مَكتُوبٌة عَلَيهِ لا يَعرِفُها أحد سِواهُ. 13 يَلبِسُ ثَوباً مَغمُوساً بِالدَّمِ، وَاسْمُهُ «كَلام اللهِ» 14 وَتَتبَعُهُ جُيُوشُ السَّماءِ عَلَى خُيُولٍ بَيضاءَ، يَلبِسُونَ كِتّاناً أبيَضَ نَقِيّاً. 15 وَخَرَجَ مِنْ فَمِهِ سَيفٌ حادٌّ ذو حدين لِكَي يَضرِبَ بِهِ الأُمَمَ. سَيَحكُمُهُمْ بِعَصاً مِنْ حَدِيدٍ، وَسَيَعصُرُهُمْ كَالعِنَبِ فِي مِعصَرَةِ سَخَطِ الإلَهِ القَدِيرِ. 16 وَعَلَى ثَوبِهِ وَعَلَى فَخذِهِ اسْمٌ مَكتُوبٌ: «مَلِكُ المُلُوكِ وَسَيّد السَّادَات (سفر الرؤيا).
  5. ﴿بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ﴾.
  6. مسيح، في اللغة العبرية هي "ماشيح - מָשִׁיחַ" من الفعل "مشح" أي "مسح" ومعناها في العهد القديم الممسوح بالدهن المقدس، ونقلت كلمة "ماشيح" إلى اللغة اليونانية كما هي ولكن بحروف يونانية " ميسياس -Мεσσίας" ومن ثم ترجمت ترجمة فعلية " خريستوس -Хριστός" من الفعل اليوناني " خريو -chriw" أي يمسح؛ وجاءت في اللاتينية " كريستوس ـ Christos" ومنها في اللغات الأوربية " Christ"؛ كانت عملية المسح تتم في العهد القديم بواسطة الدهن المقدس الذي كان يصنع من زيت الزيتون مضافًا إليه عددًا من الطيوب (سفر الخروج 22:30-31)، وقد ظل هذا التقليد حتى أيامنا هذه في المسيحية في سر الميرون؛ وكان الشخص أو الشيء الذي مسح يصبح مقدساً ومكرساً للرب؛ وحصر استخدامه للكهنة، الملوك والأنبياء (خروج 30:30)؛ ولهذا دعوا بمسحاء الرب (المزامير 15:105)، ومفردها "مسيح الرب" (صموئيل الثاني 1:23)، ويصفهم الله بمسحائي (أخبار الأيام الأول 22:16)؛ لكن الوحي الإلهي في أسفار العهد القديم يؤكد أن هؤلاء "المسحاء" جميعاً؛ كانوا ظلاً ورمزاً للآتي والذي دعي منذ داود فصاعداً بـ "المسيح"، وكانوا جميعاً متعلقين بمسيح المستقبل الذي سيأتي في ملء الزمان ودعاه دانيال النبي المسيح الرئيس (دانيال 24:9)، و"المسيح" و"قدوس القدوسين" (دانيال 25:9)، لأنه سيجمع في شخصه الصفات الثلاث: الكاهن والنبي والملك؛ وهذا الشخص وفق العقيدة المسيحية هو يسوع، بينما لا تزال الديانة اليهودية تنتظر قدومه.
  7. أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ. وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ.(متى 5، 44-45). وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا. (متى 5، 39).
  8. على سبيل المثال، فإن لدى الشيعة اثنا عشر إماما، ولو أرادوا الاحتفال بذكرى ولادتهم ومناسبة وفاتهم، فإن ذلك يقتضي تعطيل الدوام الرسمي كل خمسة عشر يوماً. وإذا ما رافقتها حوادث أخرى كالجرح فذلك يعني إن التعطيل سيسري كل عشرة أيام. وهكذا لبقية طوائف الشعب.


الحمير وكلاء الله

  الحمير وكلاء الله أنا أقول دوماً ان فكرة الله هي افتراضية يفترضها البشر باعتبار ان هناك خالق لهذا الكون، اعتمادا على مبدأ ان لكل شيء سبب، ...