السبت، 2 نوفمبر 2019

الاعتصام في العراق -وجهة نظر قانونية-


الاعتصام في العراق

-وجهة نظر قانونية-



د. رياض السندي     

دكتوراه في القانون الدولي





أثار إعلان السيد مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري في العراق بتاريخ 00/2/2016 الاعتصام أمام بوابات المنطقة الخضراء المحصنة من اجل بدء مرحلة جديدة من الاحتجاجات السلمية الشعبية لإجراء إصلاحات حكومية خلال المهلة المقررة وهي 45 يوما بدأت في 13/2 وتنتهي في 28/3/2016، ردود افعل واسعة تراوحت بين مؤيد ومعارض. ومع اقتراب ساعات الاعتصام أثير الجانب القانوني لها بشكل لافت، وهذا ما يحدث في المسائل الخلافية عادة، بما يذكرنا بأيام غزو العراق للكويت عام 1990، حيث ساد جدل قانوني قدم فيه كل طرف أسانيده القانونية والتاريخية لإثبات عائدية الكويت للعراق من عدمه.

وتزايد هذا النقاش مع صدور بيان مجلس الوزراء العراقي في 16/3/2016 جاء فيه إن:

" مجلس الوزراء العراقي يؤيد ويدعم التظاهرات والمطالبة بالإصلاحات الحكومية ويحرص على حمايتها ...إلا انه يشدد على أن تتم وفق الأطر القانونية واخذ الموافقات الأصولية من سلطة الترخيص، حيث لا يسمح وفق القانون بإقامة اعتصامات، فضلا عن الظروف الأمنية وتهديد المجاميع الإرهابية".

وكان لإشارة مجلس الوزراء إلى الجانب القانوني للمسألة دافعا لكتابة هذا المقال لتوضيح وجهة النظر القانونية بصدد مسألة الاعتصام ومدى شرعيتها وفقا للتشريع العراقي من عدمه، مع الإشارة إلى تشريعات الدول الأخرى بهذا الصدد. لذا سنتناول الموضوع من وجهة نظر الفقه القانوني الدولي ثم موقف الدستور العراقي وأخيرا موقف القانون العراقي من الاعتصام.



أولا. موقف الفقه القانوني من الاعتصام؟ ما الفرق بين الاعتصام ومأ يشابهها؟

تجدر الإشارة بادئ ذي بدء إلى إن الاعتصام مسألة حديثة نسبيا ويعود تاريخها إلى منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدا في عام 1849عندما نشر السياسي الأمريكي هنري دافيد ثورو بحثا بعنوان (في واجب العصيان المدني) أعقاب رفض دفع الضريبة المخصصة لتمويل الحرب ضد المكسيك.

ويعني مصطلح الاعتصام Disobedience))، وله تسميات عديدة مثل: العصيان المدني، ومقاومة الحكومة المدنية، رفض الخضوع أو إطاعة أو الانصياع لقانون أو لائحة أو تنظيم أو سلطة تعد في عين من ينتقدونها ظالمة. إنها وباختصار شديد (التوقف عند الظلم).

وعموما، لا يوجد تعريف موحد للعصيان المدني أو الاعتصام في العالم حتى إلان ... ولكن المتعرف عليه انه رفض لقانون ظالم وبالتالي يقوم به الشعب مجتمعا، أو أن تقوم به الأغلبية من الشعب، من خلال تطبيق القانون في اطار سلمي، وأيضا قد يتضمن العصيان المدني إضرابا عن العمل، ويتخلله كذلك مظاهرات، فيكون له تأثيره المدوي داخليا، ويرغم السلطة في النهاية على الاستجابة لطلب الشعب، ومن ثم وقف أو تغيير القانون.

إلا أن أخرون يرون إن هذا التعريف لا يفرق بين الاعتصام والإضراب، حيث إن الأخير هو توقف العمال عن العمل وغالبا ما يتم ذلك في مواقع وأوقات العمل وهو يؤدي بطبيعته إلى توقف الإنتاج، وهذا هو العنصر الأساسي في عملية الإضراب.

أما الاعتصام فهو إجراء شبيه لكنه ليس مرتبطا بعنصر العمل ويمكن أن يقوم به مواطنون عاديون أو مستخدمون أو موظفون في القطاع العام وسمته الرئيسية انه غير مرتبط بالإنتاج ولا يؤثر عليه وغالبا ما يقام في أماكن عامة ذات طابع خاص كأن يقام أمام مبنى مجلس النواب أو رئاسة الوزراء أو أمام الوزارات والمؤسسات العامة أو الخاصة أو الدولية.

وعموما لا يوجد إجماع حول تعريف العصيان المدني، ووفقا لما ذكره جون روالز، فانه يمكن تعريف العصيان المدني على انه عمل عام، سلمي، يتم بوعي كامل، ولكنه عمل سياسي يتعارض مع القانون ويطبق في اغلب الأحوال لإحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة. في حين يذهب ج. هابرمس إلى إن العصيان المدني ينطوي على أعمال غير قانونية، ونظرا لطابعها الجماعي، فهي توصف بانها عمل عام ورمزي في آن واحد وتتضمن كذلك مجموعة من المبادئ. ويتسم فعل العصيان بست خصائص هي: -

                1.خرق واع ومتعمد للقانون، مثل حملة العصيان المدني التي أطلقها مارتن لوثر كينج في شغل السود للاماكن المخصصة قانونا للبيض.

                2.عمل عام، ويترجم فعل العصيان بسلوك شعبي وهو ما يميزه عن العصيان الإجرامي، حيث يزدهر الأخير في الخفاء.

                3. حركة ذات رسالة جماعية، فهو الفعل الصادر عن مجموعة يعرفون أنفسهم بالأقلية الفاعلة. لذا تشير هنا أرندت إلى إن (العصيان المدني) بعيدا عن انطلاقته من فلسفة ذاتية لبعض الأفراد غريبي الأطوار، إلا انه ينتج عن تعاون مقصود بين أعضاء مجموعة تستمد قوتها على وجه التحديد من قدرتها على العمل المشترك.

                4. حركة سلمية، أي أن يلجأ الممارس للعصيان إلى وسائل سلمية، فالعصيان المدني يخاطب الضمير الغافل للأغلبية، أكثر مما يدعو إلى أعمال عنف، وهذه احدى السمات التي تميزه عن الثورة التي من الممكن أن تدعو إلى استخدام القوة لبلوغ غاياتها.

                5. الهدف من العصيان، وغالبا ما يسعى العصيان إلى إدراك غايات مستحدثة، كما يهدف إلى إلغاء أو على الأقل تعديل القانون أو القاعدة محل النزاع.

                6. مبادئ عليا، حيث ينادي القائمون على العصيان المدني بمبادئ عليا تتفوق على الفعل موضع النزاع، وهذا ما يضفي عليها نوعا من الشرعية.

ويذهب جانب من الفقه إلى عدم التفريق بين الاعتصام والتظاهر، حيث يرى الدكتور منذر الفضل في مقال له بعنوان (التظاهر والاعتصام والحقوق الدستورية) باعتبارهما من الحقوق الدستورية في التعبير عن الرأي. والواقع إن هناك فروقا عديدة بين التظاهر والاعتصام، مما يقتضي تفصيلا في الأمر.

من الناحية الفقهية القانونية، فان الكثير من الفقهاء ورجال القانون يفرقون بين التظاهر والاعتصام. وهذا ما ذهب إليه الفقه المصري الذي اكتسب خبرة حديثة بعد حركة الاعتصامات التي شهدها الشارع المصري عامي 2011-2012.

 حيث يرى شادي طلعت انه إذا ما بحثنا عن معنى كلمة التظاهر لغويا واصطلاحيا، سنجد إن الكلمة لغويا مأخوذة من الظهير وتعني العون. والمتظاهر لغويا يعني المعاون، أما اصطلاحا فتهني كلمة مظاهرة: تجمع عدد من الأشخاص بطريقة سلمية في مكان أو طريق عام، بقصد التعبير عن رأي أو احتجاج أو المطالبة بتنفيذ مطاليب معينة ومحددة.

ومن خلال المعنى السابق لغويا، يتبين إن السلمية ركن أساسي للمظاهرة، فان سقطت السلمية سقط الاسم والمعنى، ولن تكون مظاهرة، ويتحول الاسم تلقائيا من مظاهرة ... إلى أعمال عصابات مسلحة خرجت عن القانون. ومن مبادئ التظاهر: -

                1. الالتزام بالسلمية حتى إن وصل عنف النظام إلى القتل.

                2. أن لا يصطدم أبناء الوطن مع بعضهم البعض، أيا كانت الأسباب، وأيا كانت معتقداتهم أو أفكارهم.

                3. أن لا يكره أبناء الوطن السلطة وان يبادروا كل من يكرههم بالحب.

                4. أن لا تتسبب المظاهرات في أي أعمال تخريبية.

                5. أن لا يرفع المواطنين السلاح مطلقا أثناء المواجهات مع السلطة.

وهنا يكون القانون الوطني وحده هو المنوط به تنظيم حق التظاهر، كأحد حقوق الرأي والتعبير المتفق عليها.

ويذهب الدكتور عادل عامر في مقاله (حق الاعتصام.. المسموح والممنوع)، إلى:

انه ينبغي التفريق بين التظاهرة السلمية والاعتصام المقيم. فالتظاهرة مسئوليتها تقع على المتظاهرين والأمن المكلف بحمايتها وتأمينها حتى تنهي فعاليتها، أما الاعتصام فالمسئولية الأكبر تقع على عاتق المعتصمين أنفسهم بمنع اندساس أي عناصر مخربة بينهم.

هذا في جانب المسؤولية فقط، إلا إن هناك اختلافات أخرى كثيرة بينها، يمكن أجمالها بما يلي: -

أولا. إن حق التظاهر مقرر في المواثيق الدولية ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948، حيث نصت المادة 19 منه على:

لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأي وسيلة كانت دون تقييد بالحدود الجغرافية. وتأكد هذا الحق في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، حيث نصت المادة 19 منه على:

1. لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضأيقة.

2. لكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها.

 في حين إن الاعتصام لم ينظم في القانون الدولي حتى إلان، وإنما تسري عليه النصوص الدولية المتعلقة بحق التجمع السلمي والمنصوص عليها في العهد المذكور وفي المادة 21 منه التي تنص على:

يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به. ولا يجوز أن يوضع من القيود على ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حمأية الصحة العامة أو الآداب العامة أو حمأية حقوق الأخرين وحرياتهم.

ثانيا. زمن المظاهرة محدد بساعات معينة أو يوم معلوم، أما الاعتصام فيستغرق فترة من الوقت، وزمنه يعرف بدأيته إلا إن نهأيته غير معلومة أو محددة غالبا لحين تحقيق المطالب.

ثالثا. أسلوب المظاهرة يقوم على تواجد المتظاهرين في مكان معين والتوجه نحو نقطة معينة ورفع لافتات وإطلاق هتافات أو صيحات معينة بقد تنبيه الناس إلى قضيتهم وحقوقهم، في حين إن الاعتصام هو المبيت وإلاقامة في الساحات أو الشوارع العامة في خيم أو سرادق مع ممارسة الحياة اليومية بشكل بسيط.

رابعا. شعارات المظاهرة عادة ما تكون طويلة ومتعددة بتعدد مطاليبها، في حين إن شعار الاعتصام يكون موجزا وبليغا ومعبرا عن تذمر أغلبية الشعب عن حالة عامة، مثل شعار الاعتصامات في مصر (الشعب يريد إسقاط النظام) وفي العراق (بأسم الدين باكونة الحرامية).

خامسا. طابع المظاهرة سلمي دوما، في حين إن الاعتصام مهما بدا سلميا إلا انه يتضمن أفعالا تتسم بالسلبية وإلامتناع التي تتخذ أحيانا طابعا عدوانيا مثل تعطيل المرافق العامة وقطع الطريق، وغلق منافذ الدخول والخروج، وشغل الساحات العامة بما يعيق المارة أو يؤخرهم. وهكذا فان الاعتصام في مظهره العام هو إلامتناع وعدم إطاعة المسؤولين من قبل مجموعة كبيرة من المدنيين التي باتت مقتنعة بان إلامور قد وصلت إلى طريق مسدود لا مجال فيه.

ويمكن القول إجمإلا، إن الاعتصام حالة وسطى بين التظاهر والثورة. فتقوم على أساس سلمية التظاهر وقد تتطور إلى عنف ثوري. إنها باختصار مرحلة سابق عل كسر العظم بين غالبية الشعب والسلطة. لذا ذهب بعض الفقهاء إلى إن العصيان المدني هو: نشاط مقأومي لا احتجاجي يهدف إلى الحفاظ على القيم السامية، وترسيخ العدل والحرية.

إن شرعية العصيان المدني تكمن في انه حق من حقوق إلانسان لأنه يعتبر ضمانا للحريات العامة لا يخضع للسلطة القضائية، ضمانا يمارسه المواطنون أنفسهم. وهو غير معترف به قانونيا بشكل صريح. إلا إن التأكيد على هذا الحق يظل إلى حد ما نظريا، ولا يستخدم من قبل القضاة أثناء محاكمة أي شخص ارتكب فعل عصيان. وهو يقع بين مقأومة الظلم والتمرد. إذاً فمسألة العصيان المدني ليست مؤكدة بشكل واضح. فالعصيان هو فعل غير شرعي من حيث المبدأ، ولكنه يحظى ببعض التسامح إلاداري والرأفة القضائية. وبالتالي يمكن تحليل العصيان المدني على انه "ضجة سياسية".

ونظرا لحداثة مفهوم الاعتصام، فان الخلاف مازال سائدا بين وجهتي نظر السلطة التي ترى بان إلأولوية لاستقرار النظام والحفاظ على الوضع القائم، وبين وجهة نظر المعتصمين في إن الاعتصام بمثابة استفتاء مستمر على سياسة الحكومة.

ثانيا. موقف الدستور العراقي النافذ من الاعتصام

لم يرد ذكر مصطلح الاعتصام أو العصيان المدني في الدستور العراقي ولم يشر إليه في أي من مواده، وهذا يشكل قصورا ففي فهم واضع الدستور، في الوقت الذي أشار فيه إلى حق التظاهر في المادة 38 منه بقوله:

تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام وإلاداب:

أولا: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل.

ثانيا: حرية الصحافة والطباعة وإلاعلان وإلاعلام والنشر.

ثالثا. حرية إلاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون.

ويلاحظ على هذا النص إن الدستور قد أشار إلى التظاهر فقط ولم يذكر الاعتصام، كما أشار إلى حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل مما يفهم ضمنا انه يجيز الاعتصام، لأنه احدى وسائل ذلك التعبير.

والسؤال الذي يثار بهذا الصدد: هل يحق للشعب العراقي القيام باعتصام؟

نعم، فالنصوص الدستورية والقانونية لم تحرم ذلك أو تمنعه أو تجرمه أو تعاقب عليه لذا فهو مباح وفقا للمادة 160 من القانون المدني العراقي التي تنص على إن (المطلق يجري على إطلاقه اذا لم يقدم دليل التقييد نصا أو دلالة)، وإعمإلا للقاعدة الفقهية (إلاصل في إلاشياء إلاباحة)، وما لم يمنعه القانون فهو مباح.

ويثور تساؤل أخر وهو: هل يشترط للقيام بالاعتصام استحصال الموافقات إلاصولية والقانونية من سلطة الترخيص المخولة بذلك؟

كلا، فالنص الدستوري لم يشر إلى تنظيم الاعتصام بقانون ليضع له أحكاما وقواعد وشروط ينبغي القيام بها أو توافرها لغرض القيام باعتصام ما. ومن الواضح إن النص الدستوري قد أشار إلى تنظيم التظاهرات فقط بقانون، كما هو وارد في نص الفقرة ثالثا من المادة 38 من الدستور.

وتأكيدا لقولنا هذا، فان الدستور قد اقر في المادة 5 منه على إن (السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بإلاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية).

والملاحظ على النص المتقدم، إن المشرع قد حصر شرعية سلطة الشعب بإلانتخابات فقط وبشكل واضح وصريح. ولزيادة التأكيد على الجانب السلمي في أي عملية تغيير سياسي في العراق قطعا للطريق أمام أي تغيير للسلطة بالقوة، فنصت المادة 6 من الدستور على إن (يتم تدأول السلطة سلميا، عبر الوسائل الديمقراطية المنصوص عليها في هذا الدستور).

وهذا النص يثير إلاستغراب، فالسلطة في العراق قد انتقلت إلى حكام اليوم بمساعدة القوات إلامريكية في 9/4/2003، في الوقت الذي يطالبون فيه الشعب بالتدأول السلمي للسلطة. وهل يمنع هذا النص الدستوري من تدأول السلطة أو تغييرها بشكل غير سلمي؟

إن مصطلح (التدأول السلمي للسلطة) هو مصطلح حديث نسبيا في عالم السياسة في العراق، ويعني التدأول اصطلاحا (انتقال الشيء من يد إلى أخرى) مثل تدأول النقود، أو تدأول إلاخبار، أي تناقلها الناس وتبادلوا الرأي فيها. ويقال تدأول الرئيس أعضاء اللجنة: شأورهم قبل اتخاذ موقف أو قرار. ودأول كذا بينهم، أي جعله متدأولا تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء. ودأول الله إلأيام بين الناس: أدارها وصرفها، كما في إلأية الكريمة (وتلك إلأيام ندأولها بين الناس) 140 آل عمران.

ومما يثير الدهشة في هذه العبارة، إن هناك نصا قرآنيا أخر يحرم أن يكون التدأول محصورا بفئة معين، كما في قوله (كي لا يكون مدأولة بين إلاغنياء)، أي حتى لا يكون المال ملكا متدأولا بين إلاغنياء وحدهم، ويحرم منه الفقراء والمساكين. فكيف يتفق تصرف حكام اليوم في العراق مع هذا النص القرآني وهم قد أقاموا نظام محاصصة مقيتة وطائفية منبوذة حصرت السلطة فيما بينهم؟

من البديهي إن التدأول يعني إلانتقال بسلاسة وسهولة وبشكل سلمي. أما التغيير فهو جعل الشيء على غير ما كان عليه، أي بدل به غيره أو تحويله وتبديله. وإذا كان النص الدستوري السابق قد أشار إلى التدأول السلمي للسلطة وعبر الوسائل الديمقراطية، فان وسائل تغيير السلطة بالقوة أو العنف لها أحكام أخرى مختلفة تماما، حيث يستمد إلانقلاب أو الثورة شرعيتهما من ذاتهما ومن قبول الشعب لهما.

وإلاغرب من كل ذلك، أن نجد إن الحكم في العراق ومنذ عام 2003 قد ضهد تدأول ثلاث حكومات، ولم يجري تدأول السلطة في أي منها عبر الوسائل الديمقراطية، فحكومة إبراهيم الجعفري قد عزلت عام 2006 وانتقلت إلى خلفه نوري المالكي بإرادة أميركية وطلب كردي- سني. وأياد علأوي لم يشكل الحكومة في عام 2010 على الرغم من فوزه بإلانتخابات وتدأولها المالكي ثانية بعد اتفاق أربيل مع إلاكراد والقوى السنية. وانتقلت السلطة إلى حيدر العبادي على الرغم من فوز نوري المالكي عام 2014 بإرادة أمريكية وطلب كردي- سني أيضا. وهذا ما يثير تساؤلا كبيرا عن مدى صدق ونزاهة إلانتخابات وتدأول السلطة سلميا وديمقراطيا في العراق.

ومن الناحية القانونية، فان الاعتصام يتعارض مع التدأول السلمي للسلطة لأنه يتضمن التغيير بالقوة وان لم يصل إلى درجة استخدامها، كما حصل في مصر عام 2013 عندما قرر الجيش تغيير السلطة ونقلها إليه بأسلوب مثير للجدل.

وتأسيسا على ذلك، فان الشعب العراقي وباعتباره مصدر للسلطات جميعها وفقا للمبدأ الدستوري المستقر والمنصوص عليه في الدستور العراقي النافذ والذي أشار إلى إن الشعب (يمارسها) والضمير المستتر هنا ينصرف إلى الشعب، كما إن صيغة التأنيث فيها تنصرف إلى السلطة وليس إلى المصدر، أي إن الشعب يمارس السلطة بإلاقتراع (إلانتخابات) فقط، في حين إن ذلك يتعارض مع عبارة (وشرعيتها)، فاذا كان الشعب مصدر السلطات وشرعيتها فمن حقه إن يقرر شكل ممارستها وان يمارسها بأي وسيلة يراها مناسبة، وليس بإلانتخاب فقط، وفقا لما تقتضيه إلاحوال. فلو جرى تسليمها بإلانتخاب فبها، وان لم تجر سلميا فنكون أمام تغيير غير سلمي، ويحدث ذلك في حالتين هما الثورة أو إلانقلاب.



ثالثا. موقف القانون العراقي من الاعتصام

تاريخيا، لم يشهد العراق اعتصاما قبل عام 2013، إثر إقالة وزير المالية رافع العيسأوي والدعوة لمحاكمته. فشهدت المناطق ذات إلاغلبية السنية موجة من إلاحتجاجات الشعبية قادت إلى ظهور ما سمي ب (ساحات الاعتصام) في كل من الرمادي-إلانبار، والحويجة-كركوك، ومناطق أخرى.

لذا فمن الطبيعي أن لا يعالج المشرع هذه الحالة إلى فترة قريبة، إلا انه مما يؤخذ على المشرع العراقي إهماله معالجة هذه الحالة بعد عام 2013، وهذا يشكل ثغرة قانونية في التشريع العراقي، في حين انتبه المشرع المصري إلى تلك الحالة أثناء إعداده قانون التظاهر المصري الصادر أواخر عام 2013، حيث ورد مصطلح الاعتصام في المادة السابعة منه بقوله:

يحظر في ممارسة الحق في إلاجتماع العام أو الموكب أو التظاهرة أو المبيت بأماكنها أو إلاخلال بإلامن أو النظام العام أو تعطيل إلانتاج أو تعطيل مصالح المواطنين أو أيذاءهم أو تعريضهم للخطر أو الحيلولة دون ممارستهم لحقوقهم وأعمالهم أو التأثير على سير العدالة أو المرافق العامة أو قطع الطرق أو المواصلات أو النقل البري أو المائي أو الجوي أو تعطيل حركة المرور أو إلاعتداء على إلارواح والممتلكات العامة والخاصة أو تعريضها للخطر.

وقد اعد مجلس النواب العراقي مشروع قانون حرية التعبير عن الرأي وإلاجتماع والتظاهر السلمي عام 2010 إلا انه لم يجر إقراره حتى إلان. وقد نصت المادة 2 منه إلى انه: يهدف إلى ضمان وتنظيم حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية إلاجتماع والتظاهر السلمي وحق المعرفة بما لا يخل بالنظام العام أو إلاداب وتحديد الجهات المسؤولة عن تنظيمها.

والملاحظ على هذا النص انه لم يشر إلى الاعتصام أو العصيان المدني كإحدى وسائل حرية التعبير عن الرأي والتجمع السلمي.

وقد حدد المشروع وقت التظاهر، حيث نصت المادة 10/ثانيا منه بقوله: لا يجوز تنظيم التظاهرات قبل الساعة السابعة صباحا أو بعد الساعة العاشرة ليلا.

وواضح من النص المتقدم إن المشرع لم يدر بخلده مسألة الاعتصام المفتوح والذي لا يحدد بوقت كالتظاهرات.

وهنا يثور التساؤل، فيما إذا يتطلب القيام بالاعتصام استحصال موافقة السلطة المختصة؟

إن عدم وجود نص ينظم الاعتصام بشكل واضح ودقيق فانه لا يتطلب القيام به اخذ موافقة السلطة أو إلادارة واستحصال أي موافقات أصولية، كما ذهب بيان مجل الوزراء المشار إليه سلفا. وحتى في حالة ممارسة حق التجمع والتظاهر فأن إلامر لا يحتاج إلى موافقة الجهات إلامنية أو إلادارية كما نص القانون، وإنما يحتاج إلى إشعار بموعد ومكان التجمع فقط.

وأخيرا، يفترض التعامل سلميا من قبل الحكومة مع التظاهرات السلمية لا بالتهديد أو الوعيد كما صرح رئيس الوزراء العراقي السابق بقوله: على المحتجين أن يتوقفوا، أو أن التظاهرات سيتم أيقافها بالقوة.


لوس أنجلس في 17/3/2016


المصادر: -

                1. دستور العراق لعام 2005.

                2. القانون المدني العراقي.

                3. معجم المعاني الجامع عربي عربي.

                4. د. منذر الفضل، التظاهر والاعتصام والحقوق الدستورية. موقع دويتشه فيلله إلالماني.

                5. د. عادل عامر، حق الاعتصام.. المسموح والممنوع. موقع صوت البلد.

                6. د. فائزة باباخان، حق التظاهر السلمي. موقع المواطن نيوز.

                7. شادي طلعت، معنى التظاهر واركانه. موقع اهل القرآن.

                8. العصيان المدني. موقع ويكيبيديا الموسوعة الحرة.

           9. Henry David Thoreau, On the Duty of Civil Disobedience, 1849.










الحمير وكلاء الله

  الحمير وكلاء الله أنا أقول دوماً ان فكرة الله هي افتراضية يفترضها البشر باعتبار ان هناك خالق لهذا الكون، اعتمادا على مبدأ ان لكل شيء سبب، ...