حكم الشيعة في العراق (البزوغ والأفول) | ساسة بوست
منذ 1 دقيقة، 12 فبراير,2017
سؤال ظل يتردد في أذهان الجميع، وهو: لماذا اختارت الولايات المتحدة الشيعة لحكم العراق عام 2003؟ بعد أن رفضت مساعدتهم قبل 12 عامًا، وتهاونت مع صدام على قمعهم في انتفاضهتم التي سمّاها النظام آنذاك بصفحة الغدر والخيانة، ووصفتهم بالغوغاء، فيما سمّاها النظام الحالي بالانتفاضة الشعبانية؟ ولماذا فضلتهم على غيرهم من مكونات الشعب العراقي الأخرى، والسُنة تحديدًا؟
إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي البحث باختصار في الجذور التاريخية للأزمة. كما تجدر الإشارة إلى أن ذلك لا يشكل مساسًا بأي مكون اجتماعي، أو مذهب ديني، بقدر ما يشخص السلبيات في كل جانب من أجل تلافيها. فالسُنة والشيعة مكونان أصيلان من مكونات الشعب العراقي، إلا أن استخدام اسم أي مكون لأغراض سياسية خاصة، أو في أي مشروع سياسي يربط الدين بالسياسة، دون الاكتراث لحجم الإساءة التي يلحقها بهذا المكون أو ذاك، هو الذي يطبع هذه المرحلة التاريخية من حكم العراق باسم الشيعة طيلة 14 عامًا الماضية.
ومن الناحية التاريخية، فإن هناك صراعًا خفيًا بين هذين المكونين يستند لأسس مذهبية راسخة، ومصلحية دفينة. وهي بهذا الوصف أشبه بنار تحت الرماد، تخبو تارة وتثور أخرى. وحتى لا يبدو وكأننا نُحَمِّل المسؤولية للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمرارية فيه، وإن خمدت جذورها أو اتقدت تبعًا لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة. كما أن الغلبة كانت للسُنة الذين انتزعوا الحكم الاسلامي بعد وفاة الرسول مباشرة في الاجتماع المعروف بسقيفة بني ساعدة يوم 13 ذي الحجة لسنة 11ه (632.6.8 للميلاد)، أي قبل 1426 سنة تمامًا.
فمن المعروف تاريخيًا، أن الانشطار السني – الشيعي بززدأ سياسيًا خالصًا، بالرغم من شكله الديني، حيث اتخذ أسلوب العنف في حروب الخلافة التي تتالت فصولها في موقعتين رئيستين: الأولى موقعة الجمل، في عام ستة وثلاثين للهجرة (656 ميلادية) بين علي بن أبي طالب، وبين عائشة، والثانية موقعة صفين، بين علي ومعاوية عام 37 هجرية/657 ميلادية، وفي هاتين الواقعتين: الجمل وصفين ، خَلَّفّ الاقتتال عشرة آلاف قتيل في أولاهما، وسبعين ألف قتيل في ثانيتهما، وقد أعقبت هاتين الواقعتين، بعد خمس وعشرين سنة، مجزرة أقل حجمًا بكثير، ولكن ذات بعد مأساوي أكبر بكثير أيضًا، تمثلت في موقعة كربلاء التي تمخضت في عام واحد وستين للهجرة (680 ميلادية) عن مقتل الحسين بن علي، وعدا بشاعة المقتلة في حد ذاتها، فقد أخذت مأساة كربلاء بعدًا تأسيسيًا لما لن يتردد بعض الدارسين في تسميته بـالديانة الشيعية، بالنظر إلى ما تَوَلَّدَ عنها من شعور بالذنب وحاجة إلى التكفير لدى أهل الكوفة وذريتهم من بعدهم.
ومنذ ذلك اليوم, ظّل الحكم بيد السُنة، على الرغم من انتقاله لأقوام أخرى متعددة ومختلفة من غير العرب، عبرَ نظام سياسي يستند على الشريعة الاسلامية يدعى بالخلافة، الذي استمر منذ انتخاب أبي بكر الصديق، أول خليفة للرسول محمد، حتى تاريخ إلغائها في 20 ربيع الأول 1342هـ الموافق 30 أكتوبر (تشرين الأول) 1923، إلا أن الإعلان عن إلغائها رسميًا جرى على يد أتاتورك في 27 رجب 1342هـ الموافق 3 مارس (آذار) 1924م، بعد أن استمرت طيلة 1292 سنة متصلة. وباستثناء حكم العباسيين، حيث تأسست الدولة العباسية على يد المتحدرين من سلالة أصغر أعمام نبي الإسلام محمد بن عبد الله، ألا وهو العباس بن عبد المطلب، وقد اعتمد العباسيون في تأسيس دولتهم على الفرس الناقمين على الأمويين لاستبعادهم إياهم من مناصب الدولة والمراكز الكبرى، واحتفاظ العرب بها، كذلك استمال العباسيون الشيعة للمساعدة على زعزعة كيان الدولة الأموية. نقل العباسيون عاصمة الدولة، بعد نجاح ثورتهم، من دمشق إلى الكوفة، ثم الأنبار، قبل أن يقوموا بتشييد مدينة بغداد؛ لتكون عاصمة لهم، فإن الشيعة لم يستلموا حكم الدولة الاسلامية أبدًا.
وفي عام 1921 أعلن فيصل بن الحسين ملكًا على العراق، وعلى الرغم من أن الشريف حسين يعتز بنسبه لآل البيت، إلا أن صراع السقيفة كان منسيًا، واستطاع فيصل أن يكسب شيعة العراق من خلال جولاته المختلفة، وكان يُقسم بجده الحسين (عليه السلام) في العديد من خطبه، كما أن والده كان قد تحفظ حول تنصيبه على العراق بقوله: إن أهل العراق سيقتلونه، كما قتلوا جده الحسين. وقد لعب البريطانيون على هذا الوتر المذهبي الحساس، بالإضافة إلى الوتر القومي العربي، عند استمالة الحسين شريف مكة لإعلان التمرد على الخلافة العثمانية. إلا أن البريطانيين سلموا السلطة إلى السُنة ممثلة في النقيب عبد الرحمن الكيلانيـ نقيب أشراف بغداد الذي اخْتِيرَ كَأَوَّلِ رَئِيسِ وُزَرَاءٍ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّوْلَةِ الْعُثْمَانِيَّةِ فِي 1920 م، وهو شيخ كبير يبلغ من العمر آنذاك 79 عامًا، وتوفي بعد ذلك بسنتين في 1922. وظّل فيصل ومن بعده غاي وفيصل الثاني يسعون لخلق وإنماء روح المواطنة لدى العراقيين جميعًا.
إلا أن نار الصراع المذهبي ظلت قائمة، حتى سقوط الحكم الملكي، قامت الجمهورية في العراق صبيحة 14 من يوليو (تموز) 1958، وإعلان الزعيم عبد الكريم قاسم رئيسًا للوزراء. وعلى الرغم من أن قاسم هو عراقي من المذهب الشيعي في العراق، إلا إنه لم يثبت عليه طيلة فترة حكمه ممارسته للطائفية المذهبية.
وبعد أن انتزع رفيق دربه ومنافسه عبد السلام عارف السلطة منه في 8 فبراير (شباط) 1964، والتي يشير لها أتباع عارف بالتاريخ الهجري بثورة 14 رمضان، حيث عادت من جديد النغمة الدينية-والقومية الى أسلوب الحكم، حتى ثورة 14 يوليو (تموز) 1968 بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي أنشأه المفكر السوري المسيحي ميشيل عفلق، فكان حزبًا قوميًا علمانيًا أكثر منه دينيًا.
– حكم الشيعة في العراق
في 9 أبريل (نيسان) عام 2003، سقط حكم حزب البعث إثر الغزو الأمريكي للعراق، وخلال سنة من حكم الحاكم المدني بريمر، تقاطر إلى العراق كل الذين ادعوا أنهم كانوا معارضين لصدام حسين، والذي عاشوا ظروفًا قاسية في مختلف الدول، أهمها إيران وسوريا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وهولندا، فشكلوا خليطًا غير متجانس من المرضى النفسيين لإدارة العراق. ومنحت الإدارة الأمريكية في عهد بوش الابن، الضوء الأخضر لإيران لتنتقم من نظام صدام حسين والشعب العراقي عمومًا، فوجدت في الطائفية الشيعية أفضل داء لتدمير العراق. وكما يفعل جميع المسلمين والعرب في اقتناص الفرصة حتى لو كانت مبنية على خطأ، دون التفكير في العواقب. وهكذا نجد حتى مثقفي الشيعة وليبرالييها يتوجهون إلى إيران منذ عودتهم للعراق، وفي مقدمتهم عراب الاحتلال أحمد الجلبي، الذي أثيرت الشبهات حول وفاته مسمومًا، دون أن يحظى بأي منصب حكومي مكافأة لخدماته. ولحق الشيعة آخرون مثل الاكراد، وخاصة أولئك الذين أقاموا فيها فترة من الزمن، فساعدوا على ترسيخ حكم الشيعة، وتبعهم انتهازيو السُنة أيضًا بعد سنة واحدة، في انتخابات 2005، ولا نغالي إذا قلنا إن هناك حتى من المسيحيين من الذين أصبحوا موالين لايران. وقد تأخر التأثير السعودي لعشر سنوات، وبدا ضعيفًا، أما التأثير التركي فقد كان محدودًا بتركمان العراق.
ولكن يمكن القول إجمالًا أن الحكم كان في أساسه شيعيًا، حيث إن الأحزاب الحاكمة طبعته بالطابع المذهبي الشيعي. وسنرى لاحقًا أن الشيعة في العراق، كانوا أكثر المتضررين منه، وتحولوا إلى معارضين له بشدة.
وبعد 14 عامًا من حكم الشيعة في العراق، يظّل السؤال قائمًا، وهو: لماذا اختارت الولايات المتحدة الشيعة لحكم العراق عام 2003 وحتى الآن؟
إن ذلك يرجع لأسباب عديدة، بعضها تاريخي أو سياسي أو مادي، بالإضافة إلى أسباب أخرى، نفسية راسخة في تكوين كل طائفة مذهبية، وأخرى اجتماعية، إلا أنها بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها ليست أكثر استراتيجية قائمة على الانتقام من نظام متمرد، واستثمار للكارثة، ويمكن تلخيص هذه الأسباب، وهي:
1. امتناع السعودية ودول الخليج من دفع الضريبة للولايات المتحدة للإبقاء على حكم السُنة، وإبعاد الشيعة وحاضنتهم إيران، كما فعلت عام 1991، حيث قاد ضغطها المالي إلى إيقاف تقدم القوات الأمريكية بقيادة الجنرال نورمان شوارسكوف إلى قلب العاصمة العراقية بغداد. وقد سبق أن وضعنا جدولًا للنفقات التي تكفلت بها السعودية وبقية دول الخليج، لتغطية النشطة العسكرية الأمريكية، وعلى الشكل الأتي:
– تكاليف الحرب العراقية – الإيرانية (حرب الخليج الاولى) 1000 مليار دولار.
– تكاليف حرب تحرير الكويت (حرب الخليج الثانية) 620 مليار دولار.
– تكاليف حرب إسقاط نظام صدام (حرب الخليج الثالثة) 3 تريليون دولار.
– تكاليف حرب القضاء على داعش (الحرب على الإرهاب) 10.2 مليار دولار.
– تكاليف الحرب في سوريا 800 مليار دولار.
– تكاليف الحرب على اليمن 38.7 مليار دولار.
– تكاليف الحر ب الليبية 240 مليار دولار.
وإن مما يثير الدهشة والاستغراب، إن أحد أسباب غزو الكويت، هي مطالبة صدام للكويت بتقديم عشرة مليارات دولار كمساعدة، وإلغاء ديون الحرب العراقية – الايرانية، والتي تقدر بعشرة مليارات أخرى، بالإضافة إلى مليارين وأربعمائة دولار كتعويض عن النفط المسروق من حقل الرميلة. أي ما مجموعه (22,4) مليار دولار.في حين أشارت بعض تقارير صندوق النقد الجولي إلى أن ديون تلك الحرب قد بلغت 60 مليار دولار. ويمكن المقارنة بينها وبين تكاليف حرب تحرير الكويت بعد غزوها، والتي بلغت 620 مليار دولار. وهي لا تشكل في كل الأحوال نسبة تتراوح بين 2-9% منها.
وربما أدركت الكويت والسعودية وباقي دول الخليج، إن صدام كان أرخص شرطي في المنطقة.
إن هذه الارقام المهولة كانت قادرة على تحقيق الرفاهية لكل سكان المعمورة.
2. الإستحواذ على ثروات العراق وآثاره، لتعزير مجتمعاتها التي تعاني من المديونية والأزمات الاقتصادية، وانعدام الامتداد الحضاري.
3. إن مجموعة من الشيعة كانوا من المعارضين غير السياسيين لنظام البعث، وشكلوا جماعات تدعي بالمظلومية والاضطهاد.
4. إن البعض من مثقفيهم وكفاءاتهم، تعاونوا مع الولايات المتحدة لوضع برنامج لاسقاط نظام صدام حسين، وفي مقدمتهم رند رحيم فرانكي وأحمد الجلبي وآخرون.
5. الاستخدام السيئ للدين، فمازال الدين في العراق يلعب دورًا كبيرًا وخطيرًا في حياة الشعب العراقي. وقد وجد السياسيون ضالتهم فيه، فجرى توجيهه الوجهة التي تخدم مصالحهم. كما أن المؤسسة الدينية قد وجدت مجالًا كبيرًا للتدخل في السياسة العامة، لذا فالمشهد العراقي مليء برجال الدين من كل الطوائف، وهم يمارسون السياسة بطريقة غير علمية. وهذا ما يبرر ظهور فتاوى دينية إسلامية لم تكن معروفة أو مقبولة من قبل، يغذيها رجال دين مدفوعون للإساءة للإسلام. فعلى سبيل المثال، وأثناء خدمتي الدبلوسية، زار ممثلية العراق في جنيف وفد من البرلمانيين العراقيين، وأثناء الحديث قال لي أحدهم بعد أن عرف بعملي ممثلًا للعراق في الأمم المتحدة: أريد يا أستاذ أن تتقدم على جميع الدبلوماسيين في الأمم المتحدة حتى في إلقاء الكلمات؛ لأننا نتقدم عليهم إنسانيًا وإلهيًا. وشرع يشرح ذلك، قائلًا: أما إنسانيًا، فلأن آدم أبا البشرية قد وُلد في العراق، وإلهيًا، لأن الإمام الغائب المهدي المنتظر سيظهر على أرض العراق.
ومن المؤكد أن هذا البرلماني من أصول دينية لا يعلم أسلوب ونظام إلقاء الكلمات والبيانات في الأمم المتحدة، وهذا ليس ببعيد عن التوجه الفكري الشيعي الإيراني، حيث سبق وأن قال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد: إن أمريكا أكبر حاجز يعطل ظهور المهدي المنتظر. وهكذا نجد الآخرون. ويجب أن لا يفهم ذكر هذه الأمثلة على التوجهات الفكرية الدينية الشيعية، على أن توجهات الفريق الآخر هي جميعها عقلانية، لا بل إن الكثير من الفتاوى السُنية تثير الاستغراب والذهول.
وقد رأينا، كيف أن الدين والمؤسسة الدينية تسودا الموقف لمعالجة التدهور الامني في العراق عام 2014 عند ظهور تنظيم الدولة واحتلاله الموصل، والأخير أخطر من الأول. وقد يقود إلى حرب أهلية لاتبقي ولاتذر.
وإلى جانب ذلك، فقد لعب الأمريكان دورًا في تشويه الدين والإساءة إليه وإلى رجال الدين، ولمختلف الأديان، عقب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، من خلال الاتصال بهم، وطلب التعاون معهم، وتشجيعهم على الاستحواذ على الأموال العامة والعائدة للأفراد ولمؤسسات الدولة، وجعل دور العبادة مخازن لإيداع الأموال المسروقة والمختلسة، وإغراء رجال الدين بالاستفادة منهم.
6. إعادة المسلمين إلى سقيفة بني ساعدة، وتحديدًا إلى يوم الجمعة 13/3/11 هجرية، ليرجعوا أربعة عشر قرنًا إلى الوراء، من خلال إثارة الصراع المذهبي بين المسلمين. صحيح أن ما يجري اليوم في بلدان الوطن العربي عمومًا، وفي العراق وسوريا واليمن خصوصًا، لا يدع مجالاً للشك في أن الطائفية في الإسلام ليست حدثًا طارئًا، ولا مصطنعًا بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه، دون أن نتجاوز الدور الاستعماري في إحياء وتشجيع الصراعات الطائفية، وصياغة بعض الأنظمة العربية وفق المحاصصة الطائفية كما هو الحال في لبنان والعراق وسوريا .. إلخ.
7. ترسيخ الاستنتاج الأكاديمي، بأن الشيعة لا يصلحون للحكم إطلاقًا، بعد تجربتهم في العراق طيلة 15 عامًا، واستخلاص نتائج هذه التجربة.
8. تحجيم دور العراق، كبلد عنيد متمرد، يستند لقاعدة اقتصادية قوية، ويشكل تهديدًا للولايات المتحدة الأمريكية، من خلال تشجيع بقية الدول على التمرد ضدها.
9. جعل العراق عبرًة للدول الاخرى عمومًا، والعربية خصوصًا، لضمان انصياعها للتوجيهات الأمريكية لاحقًا.
10. توريط إيران في المستنقع العراقي، لتكون الضحية القادمة التي ستحفر، بتصرفاتها الانتقامية، قبرها بيدها في العراق.
11. جعل العراق المنيع سابقًا، قاعدة أمريكية لتدمير وتفتيت الدول العربية بعد خمس سنوات، وفقًا لمفهوم الفوضى الخلاقة. وهذا ما حدث بالفعل في كل من تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا.
12. إزاحة بعض الاقليات، وفي مقدمتهم مسيحيو الشرق، والأيزدية والصابئة وغيرهم؛ لأنهم يشكلون عقبة في طريق تنفيذ المخطط التدميري الكبير، نظرًا لولائهم لأوطانهم، وطيب العلاقة بينهم وبين الأغلبية المسلمة، وذلك استعدادًا للحرب العالمية القادمة بين المسيحية والإسلام.
إلى جانب كل هذه الأسباب، فإن أهم سبب كان هو، طبيعة المجتمع الشيعي التي تتصف بما يلي:
أولًا. الشيعي ميّال إلى الغريب، في حين أن السُني ميّال إلى القريب. وذلك يرجع إلى إحساس الشيعة بالظلم والاضطهاد. فمن الناحية التاريخية، فإن أول مَن ناصر التشيع، كانوا من الفرس الذين سَبتهم الجيوش الاسلامية في فتحها لمملكة فارس. وفي وقت لاحق من تاريخ الدولة الإسلامية، وقف الشيعة إلى جانب الفرس وساندوهم في إقامة الدولة العباسية عام 128 هـ، الموافق 750م. وفي وقت متأخر، أثناء الحرب العراقية – الإيرانية 1980-1988، كانوا يجدون الحرج في مقاتلة إيران، والتجأ العديد منهم إليها، وشكلوا أحزابًا وفرقًا عسكرية، مثل المجلس الأعلى وقوات بدر وغيرها، والتي عادت لتستلم السلطة في العراق بعد عام 2003.
ثانيًا. الشيعي يعتقد بالإمامة لا الخلافة. أي أنه يتبع مرجعيته الدينية لا سلطته السياسية. لذا فإن كسب المرجعية سيساعد على أخذ زمام القيادة للشيعة. وهذا سيساعد على إلغاء حدود الدول التي يقيمون فيها؛ مما يفقدها سيادتها. لأن اهتمامهم سينصب على نشر المذهب، لا الحفاظ على كيان الدولة. لذا تراهم يقاتلون في سوريا مؤخرًا.
ثالثًا. الشيعي يعتمد مبدأ التقية، لذا فهو بارع في إخفاء مشاعره الحقيقة، وهذا أمر مهم في العمل السياسي. وهذا ساعده على التقرب من الأنظمة القمعية المتعاقبة باستمرار والعمل معها.
رابعًا. لا يعاني الشيعي من عقدة المرأة التي ظهرت بتأثير أحد الصحابة الأقوياء، وهو عمر بن الخطاب، والذي أصبح لاحقًا ثاني خليفة للمسلمين. لهذا فالمرأة الشيعة لها حرية أكبر في الظهور من مثيلتها في المجتمع السُني، الذي يقيّد على المرأة كثيرًا. لهذا كانت وما زالت إحدى نقاط الخلاف بين السُنة والشيعة، هي مسألة زواج المتعة.
خامسًا. الشيعة في أصلها مدرسة روحية، في حين إن السُنة مذهب مادي إعتمد السنة النبوية لشرعنة الاستحواذ على السلطة، ولتبرير بقائها في يد العرب، وتحديدًا في قريش، لكن ، لابد من التأكيد على أن حماية الدين، عند أصحاب المذهب الشيعي، كانت على الدوام مهمّة النجف، فاتيكانه، حتى وإن تزعزع موقع هذا الفاتيكان إثر الثورة الإيرانية، لكن الشيعي الذي تحلّل من انتمائه العشائري، لم يلبس رداء الهوية المدنية، بل صار منقادًا وراء الإمام أو السيّد، وقد ارتكزت هذه الطاعة، على تفسير كلمة أولي الأمر، في الآية 59 من سورة النساء التي تدل عند الشيعة على الإمام المعصوم، أو من يحل مكانه، أما ولي الأمر عند القطب الإصلاحي السنّي الشيخ محمد عبده، حيث تتبدّل دلالات أولي الأمر مع الزمن، إلى درجة جعلت محمد عبده المتصالح مع واقعه، يُخرج الناس من مدار الطاعة لعلماء هذا العصر، ليستبدل بهم ممثلي الأمة المنتخبين من الشعب بلا إكراه أو ضغط، أي أهل الحل والعقد والقيادة، في الدولة الوطنية أو القومية الحديثة.
وعلى عكس الجمهرة الشيعية، يقف رجل الدين السُّني في المنابر السياسية إلى جانب صاحب السلطة/ أو الحاكم، أو الأمير أو الملك أو الرئيس أو شيخ العشيرة الذي يتولّى الإعلان عن الموقف السياسي. فالخطابات الدينية في الجوامع السنّية لا توجّه ولا تحذّر ولا تُصدر مواقف متباينة عن مواقف الحاكم المتنفذ ملكًا أو رئيسًا أو شيخ عشيرة، ثمة باختصار تقسيم عمل بين السياسي (الحاكم)، ورجل الدين السني، يقبع الأول على قمّته.
سادسًا. الشيعي منغلق على طائفته بحكم الاضطهاد السياسي، في حين أن السُني منفتح بحكم استحواذه على السلطة. ومن هنا ظهر مفهوم الطائفية.
ويُعرِّف معجم أوكسفورد الشخص الطائفي بأنه الشخص الذي يتبع، بشكل مُتعنِّت، طائفة معينة، أي أنه الذي يرفض الطوائف الأخرى، ويغبنها حقوقها، أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها، تعاليًا على بقية الطوائف، أو تجاهلًا لها، وتعصبًا ضدها؛ في حين لا يعني مجرد الانتماء إلى طائفة، أو فرقة،أو مذهب، جعل الإنسان المنتمي طائفيًا، كما لا يجعله طائفيًا عمله لتحسين أوضاع طائفته، أو المنطقة التي يعيش فيها، دون إضرار بحق الآخرين.
يرى بعض الباحثين أن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة، لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقًا موازية للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة، كما أن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات، إذ من الممكن تمامًا أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
وفي هذا الجانب، فإن مفهوم الطائفية، أصبح يستخدم بديلًا لمفاهيم الملة، والعرق، والدين التي كانت سائدة قبل ذلك، واختلطت هذه المفاهيم جميعًا في بيئة متزامنة، فكريًا وسياسيًا، فأنتجت مفهوم الطائفية باعتباره تعبيرًا عن حالة أزمة يعيشها المجتمع، حيث أصبحت الطائفية مذهبًا، وأيديولوجية، وهوية، حلت محل الهويات الأخرى، والانتماءات الأعلى، بل بدأت تتعالى عليها؛ وقد تبدى الاستعداد للتقاطع معها، وأخذ موقعها، وهذا ما يهدد، اليوم، وحدة الشعوب، كما هو الحال في لبنان، والعراق، وسوريا، وغيرها، كما أن دولًا عربية أخرى تتخذ من الطائفية ذريعة لقمع شعوبها التي تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية.
سابعًا. لقد أفرزت وقائع الصراع السُني- الشيعي طبيعة كل منهم. وهذه أهم نقطة في طبيعة الشخصية. فالسُني، عند بلوغ الصراع أوجُه، يلجأ إلى الانتحار من خلال تفجير نفسه على خصومه. أما الشيعي فإنه يلجأ الى جلد نفسه وتعذيبها بشتى الأشكال، وهذا ما نجده أساسًا في ممارساته لطقوسه الدينية. وإذا كان السنُي ساديًا في تعامله، فالشيعي بدا مازوخيًا. وهذه كانت واحدة من أهم النقاط التي دفعت الأمريكان إلى تفضيل تسليم السلطة لهم؛ لأنهم لا يشكلون ضررًا عليهم وعلى استراتيجيتهم.
من المعروف أن القسم الأكبر من المعارضة العراقية لنظام صدام حسين كانت من الطائفة الشيعية التي استخدمتها إيران وأمريكا وبريطانيا لإسقاط ذلك النظام. وقد شجعت الدوائر السياسية الأمريكية على إبراز مظلوميتهم، فأصدر أحد المختصين الأمريكيين وهو جراهام فوللر بالاشتراك مع شيعية أمريكية من أصل عراقي هي رند رحيم فرانكي كتابًا باللغة الإنكليزية بعنوان (The Arab Shi’a: the forgotten Muslims) عام 1999. وهكذا فقد استطاع الأمريكان أن يعيدوا العراق إلى صراعات (سقيفة بني ساعدة) لعام 632م. وشعر الشيعة بأن فترة إنصافهم قد حلت، وبأن الوقت قد حان للأخذ بثأر (الحسين) ، فانطلقوا يبحثون عن (يزيد)، وبدأوا يتصرفون على هذا الأساس، مما قاد إلى شيوع الانتماء الطائفي وانعدام المواطنة، وباحتلال العراق عينت رند رحيم سفيرة للعراق لدى واشنطن في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003. إلا أن السلطات الأمريكية قد خيرتها بين الاحتفاظ بمنصبها كسفيرة للعراق أو الاحتفاظ بجنسيتها الأمريكية، ففضلت الخيار الأخير وتركت المنصب في أغسطس (آب) 2004 بعد تسعة أشهر فقط. ولم يكن مصير زميلها ومعاصرها، وأحد أقطاب هذا المشروع، بأفضل منها. فقد نبذته الإدارة الأمريكية، وتناست خدماته، بعد أن شعرت بميوله لإيران، ولم يحظ بأي منصب رسمي. وهذا يدل على أن المشروع هو بالأساس سياسي بحت، وإن استخدم الدين غطاءً له. وقد قاد هذا التمسك الطائفي إلى أن يحل مفهوم ( المكونات ) بدلًا من مفهوم الشعب الموحد.
إن المتتبع لشؤون السياسة الدولية يمكن أن يلاحظ أن عام 1979 هو عام بزوغ الإسلام السياسي، حيث ظهرت المؤشرات التالية، وكمايلي:
آ- بزوغ الاسلام السياسي واستلامه السلطة في عدد من الدول الإسلامية والعربية، ابتدأها الخميني في إيران، ثم طالبان في أفغانستان، وحزب الدعوة الاسلامية في العراق، والإخوان المسلمين في مصر وغيرها. وهكذا، وجدنا أن الغرب عمومًا والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا خصوصًا، قد سعت لتغيير الأنظمة السياسية العلمانية في تلك الدول الإسلامية والعربية، مثل نظام الشاه في إيران (1979)، النظام الماركسي في أفغانستان (1979)، ونظام صدام في العراق (2003)، ونظام زين العابدين بن علي في تونس، ونظام علي عبد الله صالح في اليمن، ونظام حسني مبارك في مصر (2011)، لتستبدل بها أنظمة دينية إسلامية.
ب- إن أحزاب الاسلام السياسي قد فشلت في كل الدول التي إستلمت السلطة فيها لسبب جوهري واحد، وهو أنها مارست السلطة وفقًا لأيدولوجيتها الدينية، ولم تستطع أن تستوعب حقيقة أن إدارة الحكم يختلف عن حساب يوم القيامة. وتعذر عليها أن تغير من مفاهيمها الدينية لتجعلها ملائمة لإدارة الدولة إلا بعد وقت طويل، قدمت فيه شعوب تلك الدول خسائر جسيمة وتضحيات كبيرة. مما تعذر قبولها وإستمرارها فيما بعد.
ج- إن الدول الغربية ذات التاريخ الاستعماري العريق، قد وجدت في هذه النظم السياسية الاسلامية أفضل وسيلة للأنتقام من شعوبها وتبديد ثرواتها، واستغلال جهلها وعدم معرفتها بشؤون الحكم، فاستغلتها أبشع استغلال، ودعمت الفريقين المتعارضين المؤمنين والكفار، فدعمت الفريق الأول رسميًا سرًا وعلنًا، وانتصرت للفريق الثاني تحت مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التفكير والتعبير والتدين (الإلحاد)، بشكل غير رسمي. فتمكنت بذلك من خداع الجميع.
د_ لقد وجد الغرب في مفهوم الجهاد أفضل وسيلة لتجنيد المقاتلين بأرخص الاثمان. فقاتلت بهم في أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، وقاتلت بهم صدام حسين، وحسني مبارك وغيرهم. وهكذا شكّل هولاء المقاتلون جيوشًا تقاتل بهم الدول الغربية وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، لتحقيق أهدافها الستراتيجية والعسكرية بشكل اقتصادي كبير، كما أنها استثمرتهم لبث الرعب لدى الدول العربية والاسلامية الغنية، وفي مقدمتهم الدول الخليجية، للتلويح بهم، كعصا سحرية للتدمير وسحق الشعوب وإسقاط الأنظمةالسياسية، وانتزاع ثرواتهم. ولعل أصدق مثل على التهديد بهم، هو ما قاله الرئيس الأمريكي أوباما لرئيس الوزراء العراقي حيد العبادي عام 2014 بأن الذئب على الباب. ويقصد بهم جماعة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش).
وكما قلت هيلاري كلينتون صراحة: دعونا نتذكر هنا أن أولئك الذين نقاتلهم اليوم نحن من قمنا بدعمهم يومًا ما قبل 20 عامًا. فعلنا ذلك لأننا كنا عالقين في صراع مع الاتحاد السوفيتي، ولم يكن بإمكاننا أن نسمح لهم بالسيطرة على آسيا الوسطى. «بمباركة الرئيس ريجان وبموافقة الكونغرس بقيادة الحزب الديموقراطي قمنا بالتعامل مع المخابرات الباكستانية ودعمنا تجنيد هؤلاء المجاهدين من السعودية وأماكن أخرى.. استوردنا العلامة الوهابية للإسلام حتى نستطيع الإجهاز على الاتحاد السوفيتي». «في النهاية انسحب السوفييت.. لم يكن استثمارًا سيئًا فقد أسقطنا الاتحاد السوفيتي، ولكن علينا أن نوقن أن ما نزرعه فسوف نحصده». وقد كانت كلينتون أول ضحية لنهاية عهد الاسلام السياسي، وكان سببًا لخسارتها في انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 2016.
هل حان وقت إفول حكم الشيعة في العراق، وربما في إيران ودول أخرى أيضًا؟
لقد أفرزت انتخابات الرئاسة الاميركية طيلة عام 2016 عن بلورة برنامج جديد يبدو متعارضًا مع البرنامج السابق المتمثل في دعم الإسلام السياسي بكافة أشكاله وفصائله المختلفة، وهو برنامج ضرب الإسلام السياسي الذي استغرق قرابة 30 عامًا (1979-2017 )، والذي حظي بقبول الدولة العميقة في الولايات المتحدة أولًا، وبقبول أكثر من نصف الشعب الأمريكي، كما حَظي بارتياح من الشعوب العربية. إن هذا البرنامج في الحقيقة، لا يتعارض مع البرنامج السابق، وإن بدا كذلك، وإنما هو امتداد له. وقد مثّل هذا البرنامج الانتخابي المقبول أحد أثرياء الولايات المتحدة دونالد ترامب مرشحًا عن الحزب الجمهوري، وفاز بنتيجة غير متوقعة، أقصت واحدة من أكثر الشخصيات التي رافقت نشوء الإسلام السياسي طيلة 30 سنة، ألا وهي هيلاري كلينتون مرشحة الحزب الديمقراطي.
وطيلة السنوات الثلاث الماضية، كانت الولايات المتحدة تبحث عمن تكون ضحية سقوط الاسلام السياسي، وانحصرت المنافسة والتفضيل بين السعودية، ممثلة للإسلام السُني في العالم، وإيران، ممثلة للإسلام الشيعي في العالم.
وكانت الترجيحات الأولية تشير الى إن السعودية هي الضحية القادمة، وتحقيقًا لذلك، أصدر الكونغرس الأمريكي قانون جاستا المعروف بقانون تطبيق العدالة على رعاة الإرهاب، والذي ينص على رفع الحصانة للوجود السعودي في الولايات المتحدة الأمريكية، والسماح لأسر ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) أن تقوم بمقاضاة حكومة المملكة العربية السعودية بمليارات الدولارات، وعلى الرغم من الفيتو الرئاسي الذي أصدره الرئيس أوباما في سابقة هي الأولى من نوعها منذ 2008، إلا إن الكونغرس الأمريكي تغاضى هذا الفيتو الرئاسي، وأصر على إصدار القانون المذكور في 28 سبتمبر (أيلول) 2016. إلا إن السعودية تداركت الموقف بالتهديد بالسلاح الاقتصادي المتمثل بسحب الارصدة السعودية في الولايات المتحدة، والعودة ثانية الى مركز تمويل أنشطة الولايات المتحدة العسكرية في العالم، مما شجّع الأمريكان على تقديم إيران لتكون الضحية القادمة، وعلى الرغم من توصل الطرفين إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو (تموز) 2015، والذي لم يغب عنه السلاح الاقتصادي أيضًا في رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، حيث إن أحد العوامل الخطيرة المؤثرة الأخرى والتي ستنتج عن الاتفاق هو توقع خسارة 20 دولار في سعر برميل النفط، وهو ما يعادل خسارة 72 مليار دولار سنويًا للسعودية وحدها.
وكانت مؤشرات برنامج ترامب تشير إلى ما يلي:
1. أن أصل خراب الشرق الأوسط، ومصدر وجع الرأس الأمريكي والأوروبي، معًا، وسبب ظهور تنظيمات الإرهاب الإسلامي، سنية وشيعية، هي الدولة الفاشلة المتخلفة المؤذية، إيران.
2. ظلّ ترامب يردد وفي أكثر من مناسبة أن إسقاط نظامي صدام والقذافي كان خطأ، فالعالم كان أكثر أمنًا بوجودهما. وفي وقت لاحق، اعتبر غزو العراق أسوأ قرار في تاريخ الولايات المتحدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق