الخميس، 24 أكتوبر 2019

الأقليات أكثر ارتباطا بالوطن



بعد مرور قرن على الحرب العالمية الاولى

الأقليات أكثر ارتباطا بالوطن

                                                                                                                                                   د. رياض السندي    



  ظهر مصطلح الاقليات بشدة في اعقاب الحرب العالمية الاولى وتنامي حركات التحرر القومي والمطالبة بالاستقلال إثر انهيار الامبراطوريات الكبرى ونتيجة لإعلان النقاط الاربع عشرة الذي أطلقه الرئيس الامريكي ويلسون عام 1918، ومنها حق تقرير المصير. وبالتأكيد فقد كان للدول الاستعمارية دورا كبيرا في ذلك، وعلى راسها الامبراطورية البريطانية وروسيا القيصرية وفرنسا، ثم التحقت بها الولايات المتحدة التي دخلت حديثا على ذلك الخط من خلال ذلك الاعلان الرئاسي، الذي حرّض قوميات كثيرة ضمن الدولة العثمانية للمطالبة بالتحرر من ربقة الدولة نتيجة للسياسات الخاطئة والقاسية التي انتهجها السلاطين تجاه رعاياها، فجرى قمعهم بدلا من احتضانهم.                                                   

وبات من المؤكد الان وبعد مرور قرن على تلك الاحداث- ان الغاية الخفية من ذلك هو تقسيم الامبراطوريات الكبرى ومن بينها الامبراطورية العثمانية، واقامة دولة لليهود. ولأجل تحقيق ذلك، فقد بذلت الدول الاستعمارية وفي مقدمتها بريطانيا وعودا كثيرة لقوميات واقليات عديدة، لم يجري تنفيذ معظمها، كتلك الممنوحة للعرب اولا في نقل الخلافة الى العرب واقامة دولة عربية واحدة مستقلة. وهكذا نجد ان الشريف حسين قد أعلن ثورته في 10/6/1916 وأعلن نفسه خليفة للمسلمين عام 1922. وكذلك، فقد منح الاكراد وعدا بإقامة دولة كردية، فأعلن الشيخ محمود الحفيد ذلك ولقب نفسه بملك كوردستان عام 1919. وعلى غرار ذلك، فقد منح الارمن والاشوريون وعدا بالاستقلال. وكانت نتيجة ذلك، ان دفعت تلك القوميات والاقليات تضحيات كبيرة وقاسية لتلك الوعود الجوفاء، فدفع الارمن أكثر من نصف مليون ضحية، ودفع الاكراد مثلهم الالاف من الضحايا، ودفع الاشوريون ستون ألف ضحية من جراء نزوحهم من مناطقهم في تركيا وإيران الى العراق.                                       

والحقيقة التي لم يدركها الجميع آنذاك, ولم يصغ لها الحكام حتى ضيعت دولا كبيرة من جرائها, ألا وهي ان الاقليات يمكن ان تلعب دورا كبيرا في الحياة السياسية لأي بلد رغم قلة عدد افرادها , لا بل ان تسييس مسألة الاقليات كانت من اولى سياسات الاستعمار بشقيه القديم والحديث, وان الاقليات التي تعودت على التضحية دوما لهي اكثر ارتباطا بالوطن من الاغلبية المنتفعة والتي غالبا ما ترى انها صاحبة حق في الوطن بلا منازع، باستثناء من اتى ربه بقلب سليم كرئيس الوزراء الاسبق الخالد عبد المحسن السعدون، وان احتجاجات الاقليات كانت وما تزال بقصد تصحيح الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلدانها والتي كان بمقدور الحكام معالجتها بدلا من قمعها . وان ردود افعال الحكام تجاه هذه الاقليات هو الذي رسم الخارطة السياسة لتلك الدولة مستقبلا. وقد رأينا ان دولا عديدة قد انقسمت على نفسها من جراء سياساتها الخاطئة تجاه القوميات والاقليات التي كونت دولا جديدة. والامثلة على ذلك كثيرة، مثل الدولة العثمانية ويوغسلافيا والسودان، وبعضها على الطريق. وقد شهدت فترة ما بعد الحرب العالمية الاولى، نتائج تلك السياسات الخاطئة، فردود الافعال المتشنجة للدولة العثمانية تجاه الارمن والاشوريين والاكراد قادت الى تقسيمها، فظهرت دولا جديدة كالعراق والحجاز وغيرها. وقد اوجدت الدول الاستعمارية سيناريواً خاصاً لمثل هذه الحالات يتمثل في مراحل متلاحقة هي: تحريض الاقليات على المطالبة بالحقوق، ثم تشجيع دولة الاصل ودفعها الى الانتقام منهم، واخيرا اقتراح الاستفتاء، الذي ستكون نتائجه محسومة قطعا لصالح الانفصال.

 واثناء عملي لدى مكتب الامم المتحدة في جنيف أتيحت لي الفرصة للاطلاع على ارشيف عصبة الامم. ولاهتمامي بتاريخ العراق فقد اطلعت على كل الاف الوثائق المتعلقة بدولة العراق وظروف تأسيسها وقيامها. ومن خلال تصفحي لنتائج الاستفتاء في قضية الموصل وجدت بان ما يثير الانتباه، هو انطباعات القسوة التي مارستها الدولة العثمانية تجاه رعاياها من تلك الاقليات، ورسائلهم الى اللجنة الاممية المشكلة حول مسالة الموصل تزخر بصور معاناتهم وعذاباتهم ومخاوفهم من عودة العثمانيين لحكمهم. وهكذا فقد كان هاجس هذه الاقليات هو الخشية من العودة الى الخضوع لحكم الاتراك ثانية، لا بل ان معظمها تشترط البقاء تحت حماية البريطانيين حتى في ظل حكم عربي. وهكذا فقد ايدت الانفصال عن الدولة العثمانية كل تلك الاقليات من العرب الارمن والاشوريين والاكراد وحتى اليهود. والجميع يدور ضمن خطة استعمارية بعيدة المدى. إلاّ انهم سرعان ما أدركوا ان الاستعمار لم يأت لسواد عيونهم، بعد ان تنصل لوعوده لهم، وهكذا نجد ان الاشوريين ظلوا يرددون عبارة (الخيانة البريطانية للأشوريين). وظهر الجيل التالي من العرب وهو يحمل كره خاص للبريطانيين تمثل في الملك غازي واتباعه، وأدرك الاكراد ان البريطانيين لن يحققوا احلامهم ولن يَفُوا بوعودهم لهم فانطلقوا يبحثون عن نصير اصدق وأوفى.

وهكذا، فقد نجد انه وبمجرد ان قامت دولة حديثة على أنقاض الدولة العثمانية حتى سارعت جميع تلك القوميات والاقليات دون استثناء الى ان تشمر عن سواعد الجد لبناء الوطن مفعمين بروح المواطنة الصادقة، التي غابت عن الاغلبية، لا بل قدّموا الوطن على الدين، فقد ظلّ الناشط سركيس بدروسيان يردد باستمرار مقولته الوطنية (أنا عراقي أرمني، ولست أرمنيا عراقيا). 

   وهكذا نجد ان مسيحيو العراق اول من أسرع لبناء الوطن على الرغم من انهم كانوا ضحية التاريخ دوما وحملوا في اعناقهم ذنوب الاخرين. فكان الاب أنستاس الكرملي حامي حمى اللغة العربية وحامل لواءها، ومجلته (لغة العرب) أشهر مجلة قبل تأسيس دولة العراق وما بعدها. ويكفي ان نذكر بان اول وزير صحة عراقي هو الدكتور حنا أفندي خياط، الذي استوزر في الوزارة النقيبية الثانية في 12/أيلول 1921. وكذلك الصحفي روفائيل بطي صاحب جريدة البلاد والنائب عن البصرة في البرلمان العراقي. وكذلك السياسي يوسف غنيمة النائب في البرلمان العراقي، ومريم نرمه اول صحفية عراقية وصاحبة جريدة (فتاة العرب) 1937، التي وقفت موقفا شجاعا من السفارة البريطانية في بغداد عندما رفضت ان تكون منبرا لهم وفضلت الخسارة المالية واغلقت صحيفتها ودفعت ثمنا لموقفها الوطني من الاستعمار البريطاني بعد ان رفضت اغرائها بالمال. وبولينا حسون التي اصدرت اول مجلة نسوية عراقية هي (ليلى) عام 1923، وهي رائدة الصحافة النسائية العراقية، والتي اضطهدت كثيرا، فتركت العراق وذهبت الى الاردن. والى جانب هؤلاء كان هناك العديد من المفكرين والاطباء والمهندسين والمحامين والشعراء والفنانين ويكاد لا يخلو اي مجال من مجالات الحياة من هذه الاقليات وانجازاتها.    وكانت احدى العوائل المسيحية المعروفة في الموصل (عائلة سرسم) تفتخر بانها قد انجبت أكثر من مئة طبيب لدولة العراق. وقد جمع سهيل قاشا في كتابه مسيحيو العراق لعام 2009 الكثير من تلك الانجازات والمساهمات القيمة.   

وعلى غرار ذلك، نجد ايضا اخلاص يهود العراق للمملكة العراقية الحديثة، حيث لعب ابناء الطائفة اليهودية دورا مهما في عملية الاعداد لتأسيس الدولة العراقية الحديثة في العام 1921, فقد كانوا من الطبقات المتعلمة والمثقفة في العراق آنذاك .... وقد إستوزر ساسون حسقيل، وهو من يهود العراق كأول وزير للمالية لمملكة العراق ضمن تشكيلة الوزارة النقيبية الاولى التي شكلها عبد الرحمن النقيب عام 1921. لابل عدّه مازن لطيف في كتابه يهود العراق لعام 2011، بأنزه وزير عراقي.

وقد ساهم ساسون حسقيل الوزير العراقي المخضرم ببناء اقتصاد العراق وماليته على اسس رصينة، كما كان مفاوضا عنيدا وصاحب نظرة إستشراقية في مفاوضات العراق مع شركات النفط البريطانية، حيث جلبت سياسته ومواقفه الوطنية واردات كبيرة للعراق، عندما اشار على الوفد العراقي المفاوض في مفاوضات النفط مع الانكليز الى اضافة كلمة (ذهب) على جملة (اربعة شلنات) عند احتساب عائدات النفط، بينما جلبت لساسون غضب البريطانيين، وعدم رضاهم على إستيزاره لاحقا، لكنه ظل فعالا في مجلس النواب العراقي. واليه يعود الفضل في اصدار اول عملة عراقية وطنية بالاشتراك مع يهودي اخر هو ابراهيم الكبير مدير عام المحاسبة المالية آنذاك في عام 1932، لتحل محل الليرة التركية والروبية الهندية.  وكان النائب ابراهيم حاييم (18761952) وهو من يهود العراق ايضا أحد اعضاء الوفد النيابي المكلف بالعمل على ادخال العراق في عصبة الامم عام 1932. وما زال العراقيون يتذكرون الفنانة سليمة مراد والفنان صالح الكويتي والصحفي انور شاؤول والمؤرخ مير بصري وغيرهم الكثير. وممن الجدير بالذكر ان اخر يهودي غادر العراق بعد سقوط بغداد ودخول القوات الامريكية. لقد كانت الاقليات بحق حاويات فكر ومعرفة. وما زلت اتذكر كيف ان الرئيس احمد حسن البكر قد طلب احدى راهبات ثانوية العقيدة في بغداد عام 1969 لتترجم لوفد فرنسي كان يزور العراق آنذاك. وهذا يدل على ندرة المتحدثين بهذه اللغة من العراقيين حتى ذلك العهد المتأخر من تاريخ العراق.

وما يقال عن المسيحيين واليهود يمكن ان يقال عن طائفة الصابئة المندائيين على قلة عديد افرادها. فقد انجبت هذه الاقلية العراقية الراسخة اول رئيس لجامعة بغداد العريقة لعام 1958 الا وهو الدكتور عبد الجبار عبد الله، الذي اعتقل اثناء انقلاب 8 شباط 1963، على يد مجموعة مسلحة من الحرس القومي آنذاك ومن بينهم طالب فاشل لديه في قسم الفيزياء، الذي ضرب استاذه قائلا: اطلع دماغ سز (اي اخرج ايها الغبي) وانتزع من جيب سترته قلم الحبر من الياقوت الاحمر كان قد اهداه العالم المشهور اينشتاين له اثناء دراسته في الولايات المتحدة، كما أشيع عنه. 

وبعد الاحتلال الامريكي في عام 2003, فان الاقليات العراقية من المسيحيين والصائبة واليزيدية قد دفعت ثمنا باهظاً وصل الى حد تفجير الكنائس وقتل رجال الدين، مما دفع الكثير منهم الى الهجرة خارج العراق، مما اثار مخاوف انهاء وجودهم في ارض الرافدين.

وبعد مرور قرن كامل على قيام الحرب العالمية الاولى، فقد اثبتت الاقليات بانها أكثر ارتباطاً بالوطن بعد الدرس القاسي الذي تلقته، حيث نجد ان الاقليات قد وَعَت الدرس جيدا وأدركت تماما بان وجودها مستهدف، وان الدول الغربية ومهما اختلفت الحجج والدوافع فإنها تسعى لإفراغ الشرق الاوسط من الاقليات. وبدأت الكنيسة في العراق تدعو اتباعها الى التمسك بالأرض والوطن. فهل سينجح هذا الدواء في وقف هذا النزيف المستمر. وان الغرب يدرك ذلك جيدا، لذا نجده يسعى الى تشجيع الهجرة الى الخارج، مما يعرّض هذه الاقليات للذوبان في تلك المجتمعات الكبيرة والتشتت في دول العالم المختلفة والمتباعدة، وقد تحقق لها ذلك بالنسبة لليهود العراقيين الذين تم اخراجهم من العراق بطريقة دراماتيكية معدة سلفا، ساهم فيها عراقيون دون ان يدركوا ابعادها، لغرض ارسالهم الى الوطن الجديد بدافع استعماري بحت. وما جرى على يهود العراق يجري اليوم على المسيحيين والصابئة المندائيين واليزيدية وغيرهم، وسيظل الحال هكذا حتى قيام حكومة وطنية تنظر الى شعبها كأفراد اسرة واحدة لا تفرق بينهم، وهذه امنية الجميع. 



د. رياض السندي - جنيف

oshana_iraq@yahoo.com

                                                                                                


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الحمير وكلاء الله

  الحمير وكلاء الله أنا أقول دوماً ان فكرة الله هي افتراضية يفترضها البشر باعتبار ان هناك خالق لهذا الكون، اعتمادا على مبدأ ان لكل شيء سبب، ...