الأربعاء، 30 أكتوبر 2019

أسباب الإنهيار السريع للسلطة في العراق


 

أسباب الإنهيار السريع للسلطة في العراق 


د. رياض السندي

دكتوراه في القانون الدولي


كان لانهيار القيادة العسكرية المدوي والتدهور الأمني الخطير وسقوط ثاني أكبر مدن العراق (مدينة الموصل التاريخية ليلة 10 حزيران 2014 أسباب عميقة غائرة في المجتمع العراقي تولدت بعد 11 سنة من سقوط بغداد في 9 نيسان 2003. وقد حاول المخلصون والوطنيون من أبناء العراق السعي جاهدين لإنقاذ البلد من هذا السقوط المخزي إلا إن كل تلك المحاولات باءت بالفشل. ونحاول هاهنا استخلاص القسم الأكبر من أسباب هذا الانهيار، كما شخّصناها منذ البداية وحتى هذه اللحظة، مع عدم غمط حقوق الأخرين في تحليلاتهم وتشخيصهم لمواطن الخلل والضعف في بنية الدولة العراقية بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 وهي: -




1.     طبقة سياسية قادمة من الخارج وغير منسجمة: إن معظم سياسي العراق اليوم كانوا من العراقيين الذين غادروا العراق لأسباب مختلفة ومنذ فترة طويلة تجاوزت 27 سنة للكثير منهم، ومن البديهي أن معظمهم قد فقد أوراقه الثبوتية الشخصية (كهوية الأحوال المدنية أو وثيقة الجنسية العراقية) بل أن الكثير منهم قد تخلى عنها واكتسب جنسية دولة أخرى، وهكذا كانت هذه الطبقة هي مجموعة من الأجانب والذي فقدوا انتمائهم للعراق وولائهم لبلدهم الأصلي والغالب الأعم منهم لا يجيد حتى العربية وكذلك أولادهم. كما أن ظروف اللجوء المهينة لدى معظم الدولة المستقبلة لهم قد أرضعتهم حقدا على العراق وشعبه لم يتمكنوا من التخلص منه حتى الآن. وكانت اقوى تلك المجموعات هي (مجموعة إيران) وجميعهم من التيارات الإسلامية المتشددة، ثم (مجموعة الولايات المتحدة) وجميعهم من العلمانيين المتطرفين. وقد افتقدت هذه الطبقة للانسجام المطلوب لإدارة الدولة، وغدت كل مجموعة تعمل وفق أولوياتها الخاصة وتسعى لعرقلة مشاريع المجموعات الأخرى، وتعامل الجميع مع الوطن ككعكة يجري اقتسامها ويحاول كل طرف الحصول على قطعة أكبر متناسين أن الاقتسام يقود إلى ضياع الدولة. وهكذا وجدنا الوزراء يعملون ضد رئيس الوزراء، والعكس صحيح.  



2.     قلة الكفاءة: ارتباطا بالسبب السابق، فان معظم هؤلاء لم يتلقى تعليما متقدما، لان ظروف اللجوء القاسية والانشغال بأسباب العيش قد منعتهم من التحصيل الدراسي. وتعويضا عن ذلك فقد حصلوا على شهادات دراسية جامعية مزورة أو بالمراسلة والكثير منهم بدرجات علمية متقدمة (كالماجستير والدكتوراه) وفي اختصاصات مختلفة. لذا فقد اعتبر العراق في مقدمة الدول التي وجد فيها شهادات مزورة جهات متخصصة محايدة بان هناك (9627) شهادة مزورة بحسب وزارة التعليم العالي العراقية في حين قدرتها مصادر غير رسمية ب 30 ألف شهادة، وهذا أزاح الكفاءات السابقة وساهم في انهيار الإدارة.  وهذا بحد ذاته قد يشكل سببا لسقوط أية دولة مهما بلغت قوتها. وهكذا تجد اختصاصات في غير محلها، وعلى سبيل المثال فمعظم سفراء العراق من اختصاصات بعيدة عن السياسة الخارجية، مثل الفيزياء النووية والطب وعلوم الحاسبات، في حين ظل حملة اختصاص العلوم السياسية ابعد الناس عن السلك الدبلوماسي. وهكذا غاب عنصر التكنوقراط طيلة هذه الفترة.



3.     أولويات شخصية: نظرا لان جميعهم لم يكن يتوقع أن يصل إلى هذا المنصب. فان أول ما يفعله هو الحفاظ على منصبه وتوفير الحماية له، لاسيما وان جميعهم قد انقطعت صلاته العائلية والاجتماعية والعشائرية في المجتمع العراقي. لذا فقد ابتكر الأمريكان لهم منطقة القصور الرئاسية السابقة لصدام حسين وسميت مجافاة للحقيقة ب (المنطقة الخضراء) ضمت الأمريكان أولا واتباعهم من هؤلاء. وبقت هذه الطبقة السياسية معزولة عن الشعب العراقي حتى الآن، لذا لم يستطع أي سياسي أي ينزل إلى الشارع ويلتقي بعامة الشعب. وبعد ذلك يبدا العمل بالأولويات الشخصية مثل تحقيق ثروة طائلة تعويضا عن حرمان سنوات اللجوء العجاف، ثم الانتقام من خصوم الأمس، ثم ضمان وسيلة للحصانة من هذه الخروقات سواء أكانت قانونية كالحصانة الدبلوماسية، أو حصانة سياسية من خلال التمسك بجنسية دولة أجنبية لضمان طريق هروب آمن في أصعب الأحوال.



4.     دستور ملغوم: جرى إعداد الدستور العراقي الجديد على عجل، ورغم كثرة المناقشات والمقترحات والاجتماعات حول هذا الدستور إلا أن العراقيين كانوا في واد والأمريكان في واد أخر. لا بل أن الأمريكيين كانوا غير ابهين لكل تلك المناقشات والمقترحات والمشاريع المقدمة, لانهم كانوا قد كلفوا أستاذا جامعيا أمريكيا هو ( نوح فيلدمان ) فهو من مواليد 1970 في بوسطن – ولاية ماساشوستس من عائلة يهودية متزمتة خريج كلية يال للحقوق، أستاذ القانون في مدرسة هارفرد للقانون (كلية) , ومتخصص في الفكر الإسلامي ومهتم بالتشابك والتداخل بين الدين والسياسة ويجيد العبرية والعربية والفرنسية إلى جانب الإنكليزية وله كتاب سقوط وقيام الدولة الإسلامية عام 2008 وهذا ما عكسه في دستور العراق عام 2005، حيث وضع خلطة قانونية معقدة . قلنا منذ البداية أثناء احدى المناقشات الدستورية صيف عام 2004 بان هذا المشروع مليء بالألغام التي ستنفجر في المستقبل، وهذا ما أعلنه رئيس الوزراء المالكي عام 2012. وما زالت المشاكل القانونية التي يثيرها هذا الدستور مستمرة ومنها فدرالية الأقاليم في العراق (علما إن العراق كله أصغر من مساحة أية ولاية أمريكية)، وكذلك مسالة تقاسم الثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط والغاز بين المركز والإقليم والمحافظات. وكذلك مسالة توزيع السلطات والصلاحيات، وغيرها.



5.     تغييب الجيش العقائدي: من المعلوم إن لكل دولة جيشها الخاص، وهو سور الوطن ضد أي تهديد خارجي. وتكمن فائدة الخدمة العسكرية الإلزامية (خدمة العلم) في توحيد الشعب، حيث يجمع الجيش كل طوائف الشعب ومكوناته القومية والدينية والمذهبية ومن مختلف مناطق البلاد ليصهرها في بودقة واحدة هي الولاء للوطن، مما يولد روح الوحدة والجماعة داخل المؤسسة العسكرية. وقد جاء القرار الأمريكي الذي اتخذه الحاكم المدني في العراق (بول بريمر) بحل الجيش العراقي بتداعيات كارثية. فقد بقيت دولة العراق بلا جيش. فهل يعقل اليوم أن تقوم دولة مهما كانت صغيرة دون جيش. وهذا الأمر كان مقصودا لضمان عدم إنقاذ العراق من الاحتلال والانهيار وهذا ما لمسناه في تجربة مصر عام 2013. لان الجيش هو ذراع الدولة وسندها وسور الوطن. فأصبح العراق بلا ذراع كالمعاق، بلا سور، وغدا الشعب بلا سند. وهذا ما فسح المجال لاجتياز حدود العراق من أي شخص سواء كان إرهابي أو حتى صحفي. فأصبح العراق ساحة مفتوحة لكل الإرهابيين ومخابرات الدول. وقد روى لي شخصيا أحد أعضاء البرلمان العراقي عام 2012 بان على ارض العراق تعمل مخابرات 44 دولة أخرهم هي جيبوتي. وقد لعبت إيران دورا كبيرا في الانتقام من جيش العراق نظرا للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) فقتل القسم منهم وهرب الأخر إلى دول الجوار. وتم الاستعاضة عن جيش العراق القوي الذي اعتبر في حينه (خامس جيش في العالم) بجيش من حديثي السن وغير الموالين للعراق والطامعين في المناصب والامتيازات والرواتب ومنحت الرتب العسكرية اعتباطا. وجرى تسليحه من جديد بعد أن نهبت مخازن السلاح ودمَر معظمه. فاستشرى الفساد بشكل طافح في عقود التسليح ومنها صفقة الأسلحة الروسية السيئة الصيت. وهكذا ضاعت مليارات الدولارات من أموال العراق. ومن البديهي إن جيش بلا عقيدة لا يستطيع المقاومة والصمود. وهذا ما عجل الانهيار المريع في قيادة عمليات نينوى في ساعة واحدة. وبعد 11 سنة، ظهر بريمر في لقاء تلفزيوني على قناة الجزيرة بتاريخ 24/6/2014 يبدي اعتذاره واسفه لذلك القرار، ويتساءل ماذا يجب عليه أن يفعل الآن، هل ينتحر على طريقة الساموراي.



6.     سوء الإدارة المدنية ومشكلة (استنساخ المجتمعات): لقد عدّ استنساخ النعجة دوللي معجزة علمية توصلت لها البشرية في القرن العشرين. إلاّ إن العراق قد شهد استنساخا للمجتمعات أيضا. فعندما احتل البريطانيون العراق عام 1917، أقاموا نظاما ملكيا مستنسخا عن النظام الملكي البريطاني عام 1921. وعندما احتل الأمريكيون العراق عام 2003، أقاموا نظاما فدراليا مستنسخا عن النظام الفدرالي الأمريكي عام 2005، وهكذا بقية الإدارات فظهرت مفاهيم جديدة في الإدارة العراقية يصعب استيعابها كإدارة الأقاليم والحكومات المحلية والوزارات المختلفة ومبدأ كل جزء من الدولة يشعر بانه مستقل تماما عن المركز حتى في الجيش والميزانية وتقاسم الثروات الطبيعية...الخ. لذا كانت مشكلة تصدير النفط العراقي سببا للتنازع بين المركز وإقليم كردستان العراق وكذلك بقية المحافظات.



7.     تقسيم المجتمع إلى مؤمنين وكفار: إن واحدة من أخطر ممارسات الإسلام السياسي هي تقسيم المجتمع إلى فئتين متناقضتين هما المؤمنين والكفار. وهذا ما قاد إلى ملاحقة العناصر السابقة والمنتقدة للوضع السياسي وأدى إلى امتلاء السجون (31 ألف سجين) العدد الرسمي لوزارة العدل العراقية، في حين إن المعارضة تقول إن الرقم الحقيقي هو (42 ألف سجين). وهذا الرقم الضخم في الإحصاء العالمي جعل من العراق البلد رقم 11 في قائمة سجناء العالم من بين 178 دولة. وقد ظل معظمهم في الحجز لفترات طويلة امتدت إلى 9 سنوات للبعض منهم، اتهم معظمهم بالإرهاب. وأثناء عملي كمسؤول لملف حقوق الإنسان في بعثة العراق لدى مكتب الأمم المتحدة في جنيف قد اطلعت على حالة غريبة لشاب ألقي القبض عليه في الشارع أثناء سقوط بغداد في نيسان 2003 لعدم حمله الهوية الشخصية وكان قد أمضى سبع سنوات في السجن، وقد تعذر عليه الاتصال بأهله نظرا لانتقال أهله إلى مكان أخر ضمن موجة النزوح الداخلي، ولعدم وجود هاتف محمول في العراق آنذاك، وكان كل ما يعرفه عنهم هو عنوان السكن ورقم الهاتف الأرضي المعطل. ومن المؤكد إن أمثال هؤلاء هم مادة خام قابلة للاشتعال عند حدوث أي اضطراب أمني. ومن البديهي أن تضيع هنا المجموعات الضعيفة كالأقليات، وهذا ما بدا واضحا للعيان الآن.



8.     فقدان الشعور بالمواطنة وشيوع الانتماء الطائفي: من المعروف إن القسم الأكبر من المعارضة العراقية لنظام صدام حسين كانت من الطائفة الشيعية التي استخدمتها إيران وأمريكا وبريطانيا لأسقاط ذلك النظام. وقد شجعت الدوائر السياسية الأمريكية على إبراز مظلوميتهم، فأصدر أحد المختصين الأمريكيين وهو غراهام فوللر بالاشتراك مع شيعية أمريكية من أصل عراقي هي رند رحيم فرانكي كتابا باللغة الإنكليزية بعنوان (The Arab Shi’a: the forgotten Muslims). وهكذا فقد استطاع الأمريكان أن يعيدوا العراق إلى صراعات (سقيفة بني ساعدة) لعام 632 م. وشعر الشيعة بان فترة إنصافهم قد حلت وبان الوقت قد حان للأخذ بثأر (الحسين)، فانطلقوا يبحثون عن (يزيد)، وبدأوا يتصرفون على هذا الأساس، مما قاد إلى شيوع الانتماء الطائفي وانعدام المواطنة. وباحتلال العراق عينت رند رحيم سفيرة للعراق لدى واشنطن في تشرين الثاني 2003. إلا أن السلطات الأمريكية قد خيرتها بين الاحتفاظ بمنصبها كسفيرة للعراق أو الاحتفاظ بجنسيتها الأمريكية، ففضلت الخيار الأخير وتركت المنصب في أب 2004 بعد تسعة أشهر فقط. وقد قاد التمسك الطائفي إلى أن يحل مفهوم (المكونات) بدل مفهوم الشعب الموحد.



9.     فقدان المساءلة القانونية والتطبيق الأحادي الجانب للقانون: أن تمتع غالبية السياسيين بجنسيات أجنبية قد وفّر لهم حصانة من المسؤولية القانونية، وتمكن الكثير منهم من مغادرة البلاد رغم اتهامهم بجرائم مختلفة كالقتل والاختلاس والسرقة. وجريا على التقسيمات السابقة، فقد غدا تطبيق القانون على المعارضين للنظام الجديد، وانحصر الاتهام الموجه ضدهم ب (الانتماء للبعث) أو (الإرهاب). وبالطبع جرى تزكية الشيعة وتنزيههم من ذلك، بعد التحاقهم بطائفتهم وفقا لتوجيهات المراجع الدينية الشيعية التي أفتت بجواز معاونة الكافر على المسلم الظالم في نيسان 2003. وهذا وجدنا العناصر الشيعية البعثية تتبوأ أعلى المناصب، حتى أن المشرف على رسالة الماجستير لشقيق صدام حسين (سبعاوي) قد عيّن وكيلا لوزارة الخارجية رغم إحالته على التقاعد قبل الاحتلال بسنوات. ورفض تطبيق قانون احتساب فترة ممارسة المحاماة للدبلوماسيين الصادر عن البرلمان العراقي عام 2007 بحجة انه سيمنح درجات عليا للكثير من البعثيين. في حين إن الكثير من أعضاء البرلمان والقادة العسكريين الشيعة كانوا بعثيين في النظام السابق. وما جرى بحق نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي عام 2011 خير مثال على التطبيق الأحادي للقانون.



10.الاستخدام السيء للدين: مازال الدين في العراق يلعب دورا كبيرا وخطيرا في حياة الشعب العراقي. وقد وجد السياسيون ضالتهم فيه، فجرى توجيهه الوجهة التي تخدم مصالحهم. كما أن المؤسسة الدينية قد وجدت مجالا كبيرا للتدخل في السياسة العامة، لذا فالمشهد العراقي ملئ برجال الدين من كل الطوائف وهم يمارسون السياسة بطريقة غير علمية.  فعلى سبيل المثال، زار سفارة العراق في جنيف وفد من البرلمانيين العراقيين، وأثناء الحديث قال أحدهم لي بعد أن عرف بعملي ممثلا للعراق في الأمم المتحدة فقال: يا أستاذ أريد أن تتقدم على جميع الدبلوماسيين في الأمم المتحدة وحتى في إلقاء الكلمة، لأننا نتقدم عليهم إنسانيا والهيا. وشع يشرح قائلا: إنسانياً لان أدم أبو البشرية قد وُلِد في العراق، والهياً، لأن الإمام الغائب المهدي المنتظر سيظهر على ارض العراق. ومن المؤكد إن هذا البرلماني من أصول دينية لا يعلم أسلوب ونظام إلقاء الكلمة والبيانات في الأمم المتحدة، وهكذا الأخرون. وقد رأينا، حتى أثناء الأزمة الأخيرة إن الدين والمؤسسة الدينية تسيّدا الموقف لمعالجة التدهور الأمني، والأخير أخطر من الأول. وقد يقود إلى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر.



11.استشراء الفساد: إن ملف الفساد في العراق يدمي القلب، والتقديرات الأولية لحجم الفساد وهدر أموال الدولة والثروة القومية بلغت أرقاما فلكية قدرتها بعض المصادر ب (تريليون وأربعمئة مليار دولار) خلال 11 سنة الماضية. وهكذا فقد سعى الجميع نحو جمع الثروات بأية وسيلة. بدأها الأمريكان بعقود هاليبرتون، وسار على نهجها الأخرون. وقضية الفساد في صفقة الأسلحة الروسية عام 2012، وقضية عقود وزارة الكهرباء بلغت 40 مليار دولار، ومازال وزير الكهرباء هاربا في الولايات المتحدة، وعقود إعادة إعمار وزارة الخارجية عام 2009، ومصاريف القمة العربية عام 2012، وغيرها الكثير الكثير. لا بل إن كاتب هذه السطور كان ضحية كشف أحد عقود الفساد في وزارة الخارجية عام 2013.



تساؤل في غير محله:

وبعد كل هذا التخريب، هل يستغرب الدمار؟ ولماذا يتساءل سياسيو العراق من أين جاء هذا الدمار. إن هذا تساؤل في غير محله، لابل إن قيام دولة وفق هذه الظروف والمعطيات امر شبه مستحيل. فما من دولة تستطيع الوقوف على قدميها في ظل كل هذه العوامل الهدامة. وربما يكون هذا هو القصد الخفي من تحرير العراق.  ومما يدعو للاستغراب إن معظم سياسيي اليوم هم ممن أقام في الخارج وشهدوا حرص تلك الدول ومواطنيها على مصالح دولهم وحفظ أموال بلدانهم حتى لو كانت ضئيلة جدا لابل إن بعضهم يدفعك دفعا لشراء تذكرة باص، في حين تصرفوا في العراق عكس ذلك تماما. فهل هكذا تقام الدول؟ بالتأكيد إن الدول لا تقام بالخيانة والسرقة، بل بالإخلاص والوطنية. وستخبرنا الأيام القادمة بقناعة قالتها العرب قديما فمهما طال زمن الخطأ فلن يصّح إلاّ الصحيح.

د. رياض السندي

دكتوراه في القانون الدولي

جنيف – سويسرا

في 7 آب 2014





   


الأحد، 27 أكتوبر 2019

وثيقة أهالي قرقوش إلى لجنة الموصل 1925


وثيقة أهالي قرقوش إلى لجنة الموصل 1925
د . رياض السندي


-    تمهيد
لا تسقط الدول إلا بالظلم. وواحدة من أدهى ممارسات سياسة الدول العظمى هي دفع الحكومات إلى قمع شعوبهم لقيام حالة الظلم التي تشكل دوماً مؤشراً على قرب سقوط الدولة أو الحكومة، في الأقل. وحوادث التاريخ كثيرة في هذا المجال، وأنظمة الحكم في دول الشرق الأوسط زاخرة بالعديد من تلك الحالات.
وهذا ما حدث مع الدولة العثمانية بداية الحرب العظمى عام 1914، فتعاملت مع تطلعات شعوبها بالقسوة والقمع، مما ولَّد الظلم الذي كان سبباً في سقوط الدولة وإنهيارها وتمزقها.
ويكشف لنا وثائق عصبة الأمم الملغاة والمحفوظة ضمن أرشيف الأمم المتحدة، عن خفايا تلك الحالات، وتفاصيلها الكثيرة والمثيرة.
وهذه هي الوثيقة الثالثة ضمن سلسلة وثائق عصبة الأمم التي دأبنا على نشرها مؤخراً. وهي عبارة عن رسالة وجهها أهالي مدينة قرقوش   في أطراف لواء الموصل إلى لجنة عصبة الأمم حول قضية الموصل وتحديد عائديتها، إما لتركيا أو لدولة العراق الحديث، بتاريخ 15 شباط 1925، موقعة من عدد من رجال الدين المسيحيين ووجهاء المدينة. 

-    مضمون الوثيقة
" قد تشرفنا وكتبنا لكم قبلا وطلبنا مواجهتكم وتنازلكم لزيارة قريتنا. والآن نرانا مضطرين لأن ندنو منكم بأحترام وثقة ونعلمكم بأننا ولفيف الذين نتكلم بأسمهم إنما نحن سكان قرية قرقوش القريبة من الموصل وذات الشهرة التاريخية. وإننا من صنف الزراع وأصحاب المواشي. ومن طائفة السريان الكاثوليك ومن القومية العراقية. ونحن نعتقد فيكم حتماً العدل والرحمة لتمثيلكم جمعية عصبة الأمم المحترمة المعروفة كشريعة قويمة ودستور منظم لمهام العالم كله.
بمناسبة وجودكم بيننا مثل حكَم فاحص ومدقق قضية حدود الموصل وما يتعلق بها فمن شأننا أن نرفع إليكم أمرنا معربين عما حلّ بنا من الأضرار في زمن الأتراك وما إحتملناه من جورهم بتوالي الأعوام ولا سيما مدة الحرب 1914-1919 من التعديات التي لا يمكن السكوت عنها بتّةً.
فمع كل خضوعنا لأوامرهم وتحكماتهم الخارجة عن الوسع البشري قد إرتكبوا بحقنا جرائم شتى قد ذُكر بعضها في الجدول المقدم لكم من طيه البالغ 48290 ليرة ذهباً تقاضاها الأتراك بدون رحمة. وقتلوا وأبادوا منا ثلاثين شخصاً ومن جملتهم كاهنين جليلين مع تخريبات أخرى توجب الأسف، حتى أصبحت قريتنا الكبرى المضاهية لمدينة وحاوية من الكنائس فقط نحو السبعة في أشد حالات الاضطراب.
فإليكم يا فخامة الرئيس وإلى لجنتكم الموقرة نرفع شكوى بتألم من مظالم الأتراك ونطلب منكم أن تتنازلوا وتبلغوا رسماً عصبة الأمم المحترمة في جنيف صدى صوتنا الأسيف لتتأمل في مصيرنا وترثي لحالنا وتنصفونا جميعاً بإلزام الأتراك بالتعويض بدل الأموال التي سلبوها والأنفس التي قتلوها منا بسوء نية مجرداً لأننا مسيحيين وعراقيين.
ولا جناح إن قلنا إننا نتعجب كيف إن العالم المتمدن يسكت إلى الآن عن محاكمة الأتراك ومعاقبتهم وتضمينهم ما إقترفوه من الجرائم المدهشة مع الإنسان والكائنات. وعن لزوم أخذهم تحت المراقبة إصلاحاً لنفوسهم غير المنكفة عن السوء.
لعمر الحق إنه لم يسمع قط إن حكومة ما، صنعت برعيتها وأبناءها ما صنعته تركيا مع الأبرياء من الإيقاع والشرور وهذا دليل كافي على إن حكومة الأتراك بعنصريتها التورانية هي غريبة عن هذه الديار ومعادية لعنصريتها العربية وتعمل على إستئصالها. ولا يهمها حياة أو ممات الشعب العراقي، بقاء أو دمار الموصل. ومع ذلك فتبلغ بهم الشجاعة وبالأحرى الجسارة بل ويفسح لهم مجالاً للتشبث بالرجوع ثانيةً إلى هذه البلاد العراقية التي لا حق لهم فيها ولا علاقة طبيعية كانت أو مكتسبة فضلاً عن الذكر الردي وآثار الخراب التي تركوها هنا وإنصرفوا غير مأسوف عليهم. فالتاريخ والعنعنات القومية، واللسان وأدبياته، والعنصرية العربية المنتهية إلينا من الأجداد العظام تردُ تطلباتهم وتُنكر عليهم قولهم. فهذه مقررات المؤتمرات الدولية في مدّة الحرب وبعده مع قواعد ويلسن المعلومة المؤيدة بتصديق وحكم جمعية الأمم نفسها تبطل مدعياتهم وتنبذها بعدما تقرر بالإجماع إن كل أمّة أو شعب ذات قومية عريقة وماضي دولي يحق له الإنسلاخ من حكومة شدّدت عليه الخناق وأعدمتْه التمتع بالحرية والإستفادة من بلاده. وله أن يحيي قوميته ويستعيد حكومته وليستقل في بلاده.
فَمن هو أحقُ منا بذلك نحن الشعب العراقي والتاريخ يشهد والآثار تؤيد بماضياتنا المجيدة. وسيادة دولتنا العربية الراقية المعظمة أجيالاً طوالاً في عهد الخلفاء العباسيين فاتحي الأقطار وممصِّري البلاد.
فماذا يقصد الأتراك من محاولة الرجوع ثانية إلى بلادنا ولا شيء يجمعنا معهم، أهَلْ لكي يكملوا سيئاتهم معنا أو ليواصلوا فينا ضغائنهم ووقائعهم الدموية الوسيفة التي أوقفتها يد الله العادلة وحطمتها بإخراجهم من هنا حاسرين. فنحن نرفض بتاتاً إحتمال ظهورهم بيننا ثانية وتدّخلهم في شؤون بلادنا التي أخذت تتنفس قليلاً بتواريهم عنّا.
ومن جهة أخرى فلا نرضى قَط ولا يجدر أبداً أن ينفصل شيئاً من الموصل ومحيط أقضيتها. لأنه كما إن العراق وضمنه بغداد لا يمكن أن يعيش بدون الموصل. فالموصل يمكنها بتّةً أن تعيش بدون أقضيتها وملحقاتها بما فيها. ولا مندوحة من إسترجاع حدودها القديمة الواسعة المعروفة عند كل جيوغرافي ومؤرخ ذي خبرة وإطلاع الكافلة بصيانة منافعها الطبيعية والإقتصادية والإدارية والسياسية والعسكرية إلخ. وغَني عن البيان إن سكان جبال الموصل هم قوم أكراد لا نسب ولا صلّة لهم مع الأتراك أو للأتراك معهم. ومن قديم الدهور آغاهم مشتركون وتابعون أهل الموصل بإتحاد تام في سائر شؤونهم الاقتصادية والإدارية والإجتماعية. وفوق ذلك فإن فيهم من هم من أصل عربي كالمضري وغيره مثل قبائل المزورية والبروارية فيشهد على نفسه أميرها مفتخراً بأنه من نسل العباسيين.
وبالإفتراض إذا وجد أحد يعود إلى الأتراك فينطبق عليه لا محالة أصول مبادلة السكان الجاري عندهم. فيذهب مِن هنا مَن يريد الإلتحاق بهم ويأتي إلينا من إخواننا الساقطين في بقعتهم وهم يأنون متنهدين من سيطرتهم وشدّة الجفاء وأنواع العذاب الذي يتجرعوه عندهم. فإنهم بلا ريب، إذا ما جرى هذا التبادل مع إخواننا المعتقلين هناك ويمّموا ديارنا فينظر إليهم بصفة من يقدم على حجّ وطني ويكونوا قد أتوا أهلاً ووطئوا سهلاً.
هذا وإن قريتنا قرقوش منذ عرفتْ بقدوم لجنتكم المحترمة يا فخامة الرئيس قد أخذ ينكشف عنها شيئاً من ستر المأتم الذي أنزله عليها الأتراك بتعدياتهم الفظيعة. لأننا كلنا نعتقد بسلامة نواياكم وحسن إستعدادكم بما فيه حفظ بلادنا وصيانة وطننا والرفق بالضعيف ومعاضدة الأقليات نظيرنا التي ما تناقصت ولا قلّت إلا بفتك تلك المظالم. وتأمين حياتنا بعدم السماح لظهور الأتراك مرة أخرى في هذه بلادنا العربية العراقية. وما نحن قاطنوها إلا ساميون عرباً وسرياناً، إسلاماً ومسيحيين يجلّون حكومتهم العراقية ومليكها المعظم ويحترمون الدين ويعبدون الله القادر على كل شيء.
ثم من واجبنا أيضاً أن نعلن بأننا نذكر بالمعروف حكومة بريطانيا العظمى لأنها حافظت على بقية حياتنا وموجوديتنا في تلك الأوقات العصيبة بظهورها بيننا كحليف منقذ ساعة خروج أنفاس الحرب ونجّتنا من القتل العام الذي كان قد هيأه الأتراك. ونشكر لها حسن تعاملها منذ نهاية الحرب إلى حين تشكيل دولتنا العراقية المعظمة. حتى وقد عقدنا معها معاهدة لمدة أربع سنين لفائدة البلاد وعند لزوم الحال فسوف نمدها بقدر الإحتياج. وبهذا كله يبدأ الدور الجديد لحياتنا الاجتماعية والسياسية بحرية الإدارة ورائد الإستقلال حيث نحن الآن مع حكومتنا العربية الجليلة بعناية جلالة مليكنا المعظم بإستراحة تامة وسعادة. ولا نريد تركها أو الإنفصال عنها بوجه من الوجوه لا سمح الله.
وعلى هذا الأمل نتشرف ونقدم لكم يا فخامة الرئيس وبكم إلى اللجنة الموقرة جزيل إحترامنا وعظيم إعتبارنا ونكون لفخامتكم مدى الحيوة.

قرقوش 15 شباط 1925                                                      الداعون الحقيرون
                                                            هيئة الرؤساء الروحانيين ومقدمهم في قرقوش
-    الموقعون على الوثيقة
وقّع على هذه الوثيقة مجموعة من رجال الدين المسيحيين يتقدمهم القس جبرائيل حبش، وخمسة كهنة أخرين يمثلون الرؤساء الروحانيين لأهالي القرية، إلى جانب مختارين لقرقوش هما: سمعان زكو، وعبد الله منصور، بالإضافة إلى (26) أخرين من وجهاء قرقوش وختياريتها، وبذلك يكون العدد الكلي للموقعين على هذا الطلب هو (34) شخصاً. وهم: -
أولا. الرؤساء الروحانيين
1.    القس جبرائيل حبش  – رئيس كهنة قرقوش
2.    القس يوسف دديزا
3.    القس إسحاق موشي
4.    القس منصور دديزا
5.    القس يوسف موساكي
6.    القس إسطيفان سكرية

ثانيا. هيئة الأختيارية، الشيوخ ووجهاء القرية
7.    سمعان زكو – مختار قرية قرقوش
8.    بطرس عبدال
9.    كرومي جبو سكرية
10.     جرجس يوسف قاشا
11.     نوح متي قاشا
12.     داود ددو
13.     حنا ياكو
14.     عبد الله منصور – مختار سريان قديم
15.     يوسف بهنان أوسو
16.     بهنان قس متي
17.     كرومي بهنان فرنسو
18.     باجي دديزا
19.     يعقوب توما
20.     ججو القس يوسف
21.     متي حنا حبش
22.     حنا موما
23.     منصور متي إيو
24.     أبراهيم عبا
25.     بطرس شيتو
26.     عبد المجيد بهنان هدايه
27.     يعقوب متي عولو
28.     جرجس بهنان أوسو
29.     موسى جبو
30.     يعقوب جبو
31.     يعقوب موسى حنونا
32.     كرومي هدايه
33.     سمعان فرنسيس
34.     متوكا سمعو


-    قائمة بأضرار القرية
ضمّت الوثيقة ملحقين لها، تضمن الأول بياناً بالخسائر البشرية التي ألحقها الأتراك بأهالي القرية أثناء الحرب (العظمى) العالمية الأولى 1914-1919، فيما تضمّن الملحق الثاني بياناً بالأضرار المادية وحيوانات النقل والأموال والأرزاق التي أجبرت القرية على دفعها للجيش التركي (الجندرمة) لإدامة الحرب، والتي بلغ إجماليها (48290 ليرة ذهب). وهذا ما سنبحثه بشيء من التفصيل. 

الملحق الأول/الأضرار البشرية
جاء الملحق الأول متضمناً الخسائر البشرية بالإضافة إلى أضرار مادية توثيقاً لبعض لحالات محددة، ونصَّ على ما يلي: 


الملحق الثاني/الأضرار المادية
أما الملحق الثاني المرفق بالشكوى فقد تضمّن بياناً بالأضرار المادية التي ألحقها الأتراك بقرية قرقوس طيلة سنوات الحرب العامة (الكونية) 1914-1919، مع الطلب إلى عصبة الأمم بالسعي لتحصيل تلك الأموال وإلزام الأتراك بتقديم تعويضات مادية وأدبية (معنوية) عن تلك الجنايات والمظالم الفظيعة التي جرت بحقهم. وكما يلي: 

-    تحليل الوثيقة
إن نظرة فاحصة على الوثيقة المذكورة تثير عدد من الملاحظات، وهي: -
1-    إن الوثيقة مكتوبة بلغة عربية فصيحة وبخط يد أنيق.
2-    إن رجال الدين هم في طليعة الموقعين على الطلب، ما لم يكونوا هم من دعا إليها ووجه بتقديمها. وهذا يعطي مؤشراً على مدى نفوذ رجال الدين -على مختلف الأديان- في المجتمع العراقي.
3-    إنها تعرب عن رغبة أهل قرقوش في ضَم الموصل إلى العراق، وبقائهم تحت سلطة المملكة العراقية.
4-    إنها تتضمن وصفاً شاملاً لإنتهاكات الأتراك ومظالمهم تجاه أهالي قرقوش، حيث بلغ مجمع القتلى (30) شخصاً من أهل القرية، بضمنهم إثنين من الكهنة هما: القس يوسف جبو سكرية والقس بهنام خزيمة  ، وثلاثة من المدنيين هما: داود بن يعقوب عيسو وحودي بن فتوحي عيسى، وسمعان بن يوحنا مقدسي شمعون، إلى جانب 25 شخصاً آخرين.
5-    إنها تتضمن جرداً لمعظم الخسائر والأضرار المادية والتي بلغت إجماليها (48,290 ليرة ذهبية)، طالبت الوثيقة عصبة الأمم الشكوى من الأتراك لتعويضهم. وتثير هذه الفقرة بحد ذاتها، جملة من الملاحظات، مثل: -
أ‌-    إن الإدارة الحكومية التركية كانت على قدر كبير من الفساد.
ب‌-    إن الجيش التركي كان يسلب الناس أموالهم وممتلكاتهم، ويفرض عليهم الأتاوات.
ت‌-    إن أفراد مخفر الشرطة التركية (الجندرمة) في قرقوش كانوا مرتشين وفاسدين ويقتلون الناس لأتفه الأسباب، لا بل يأخذون أهالي القرية كلهم بجريرة المذنب.
ث‌-    إن إدارة الجيش التركي كانت تعتمد في تجهيزاتها على أفراد الشعب، فتسلبهم ما يملكونه من حيوانات للتنقل، مثل البغال، وكذلك في توفير العلف لهذه الحيوانات. لذا فإن الخسارة كانت مضاعفة وثقيلة على كاهل الأفراد في ظِل الحكم العثماني.
ج‌-    من الضحك أن أهالي القرية في شكاواهم يطالبون عصبة الأمم بتعويضهم عن الكحول (العرق) الذي إستولى عليه الشرطة من أهالي القرية وشربوه. وهذا يلقي الضوء على واحدة من الممارسات المتناقضة لأنظمة الحكم الديني الإسلامي، والتي نراها واضحة في عراق اليوم في ظِل الحكم الإسلامي.
6. إن طلب أهالي قرقوش، وهم في غالبيتهم من المسيحيين السريان، يفيض بممارسات القمع التي مارستها السلطات العثمانية. وإن ممارسات الدولة العثمانية المذكورة في أعلاه، قد ألحق بها سمعة سيئة، وصلت حد الكره والحقد عليها، وهذا ما أكسب رغبة البريطانيين والعراقيين بالوصاية، في إبقاء الموصل ضمن العراق قبولاً لدى عصبة الأمم والدول الأعضاء فيها، ساعد إلى حد كبير في إتخاذ قرار العصبة الشهير بإلحاق الموصل بدولة العراق الحديث. كما رغب الملك فيصل الأول في دمج ولاية الموصل بالعراق، نظراً لغالبية السكان السنية، وأعتقد أنه بحاجة لها لتحقيق التوازن مع السكان الشيعة.  ولولا ذلك، لكان العراق دولة شيعية منذ قيامها حتى يومنا هذا.
وختاماً، فإن إضطهاد المسيحيين ومعاناتهم زمن الدولة العثمانية، ومناشداتهم الكثيرة، كما تدّل عليها رسائلهم، كان لها الأثر الكبير في بقاء الموصل ضمن دولة العراق.
 ..........................
[1] بخديدا أو بغديدا أو قره قوش (بالسريانية: ܒܓܕܝܕܐ) هي بلدة سريانية تقع في محافظة نينوى شمال العراق على بعد نحو 32 كم جنوب شرق مدينة الموصل و60 كم غرب مدينة أربيل، على الضفة الشرقية لنهر دجلة الذي يشكل مع نهر الخازر المنطقة الجنوبية من سهل نينوى بالقرب من مدينتي نينوى وكالح الأثريتين. تتوسط بخديدا سبع كنائس وعددًا من الأديرة التاريخية والتلال والمناطق الأثرية. في السبعينات من القرن العشرين بدّل اسم بغديدا رسمياً باسم آخر وهو الحمدانية استناداً إلى (الحمدانيون) الذين حكموا الموصل ما بين 890 م. و1004 م. بالرغم من الاختلاف في كتابة كلمة قرة قوش فتكتب أحياناً (قرقوش أو قراقوش) إلاّ أنّه هناك إجماع عام وقناعة ثابتة بأنّها لفظة تركية تعني (الطير الأسود) وأطلقت هذه التسمية أبان حكم الأتراك وهناك من يقول أنّ الزي الأسود الذي كان يرتديه سكان بغديدي من كلا الجنسين آنذاك كانت تسمى بهذا الاسم. أما بغديدا - بخديدا بالسرياني (ܒܓܕܝܕܐ) فهو الاسم السائد استعماله بين أبناء البلدة.  تعتبر البلدة كذلك مركز قضاء الحمدانية أحد الأقضية الخمسة للمحافظة. تمكن العثمانيون من السيطرة على المنطقة في القرن السادس عشر، حيث أصبحت بخديدا جزءا من ولاية الموصل واتسمت هذه الفترة بالهدوء النسبي حتى مجيء الأفشاريون سنة 1743 بقيادة نادر شاه الذي نهب البلدة وأحرق أربع من كنائسها. غير أن معظم سكانها تمكنوا من النجاة بعد أن تحصنوا داخل أسوار الموصل حيث ساهموا في الدفاع عن المدينة. وكمكافأة على صده لهجوم نادر شاه أهدى السلطان العثماني محمود الأول مبلغ 800 قرش لحاكم الموصل حسين باشا الجليلي لكي يشتري بلدة بخديدا بأكملها فلما علم الأهالي بالأمر قرروا هجر البلدة. غير أن حسين باشا أعدل عن الأمر وقرر أن يكتفي بعشر مدخول الأهالي سنويا بدلا من ذلك. من أهم أحداث القرن التاسع عشر مجاعة سنة 1828 أهلكت العديد من سكانها. بانتهاء الحرب العالمية الأولى آلت المنطقة إلى الإمبراطورية البريطانية التي سرعان ما ضمت ولاية الموصل إلى المملكة العراقية المشكلة حديثا. وشهدت السنين التالية معركة قضائية شهيرة بين أيوب الجليلي أحد أحفاد حسين باشا الجليلي وسكان البلدة. حيث ادعى أيوب الجليلي أحقيته بأراضي البلدة استنادا على نظام الإقطاعية السائد آنذاك. تمكنت عائلة الجليلي من ربح القضية في 21 تشرين الثاني 1949، غير أن الأهالي استأنفوا الحكم فأعادت المحكمة العليا في بغداد البلدة لأهاليها 15 آذار 1954 وثبتت محكمة أخرى الحكم نهائيا لصالح الأهالي. في بداية تموز 2014، حاول تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) احتلال بغديدا ولكن قامت قوات بيشمركة الكردية وهيئة حراسات بغديدا بردع الهجوم ولكن العوائل لجئت إلى كردستان العراق والمدن المسيحية المجاورة لينظموا إلى بقية اللاجئين المسيحين من الموصل. قامت داعش بقطع الماء عن القرية وباحتلال حقول النفط المجاورة مما أدى إلى انسحاب البيشمركة من المدينة ودخول داعش إليها في اليوم التالي. وبقت بغديدا تحت احتلال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) إلى 19 أكتوبر 2016 بعد معركة الموصل حيث بدأ بعض أهالي بغديدا الرجوع إليها. وحسب الإحصائية الأخيرة للمنظمات فإن الآشوريين/السريان/الكلدان الذين ينقسمون إلى سريان كاثوليك ويمثلون أكثر من 90% وسريان أرثوذكس 7% بالإضافة لذلك وصل للبلدة مؤخرا أكثر من 15,000 نازح نتيجة العنف في مدن عراقية، وينتمي هؤلاء إلى مختلف الطوائف المسيحية وبخاصة الكلدانية للبلدة مؤخرا أكثر من 15,000 نازح نتيجة العنف في مدن عراقية، وينتمي هؤلاء إلى مختلف الطوائف المسيحية وبخاصة الكلدانية والسريانية الأرثوذكسية وكنيسة المشرق الآشورية. أنظر، بغديدا، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.
وكتب عنها المؤرخ عبد الرزاق الحسني، قائلا: ناحية الحمدانية تتألف من 118 قرية، يقطنها زهاء 21,000 نسمة. جلهم أصحاب زرع وضرع، ومركزها قرية "قرقوش" التي تبعد 33 كيلومتراً عن الموصل شرقاً. عبد الرزاق الحسني، العراق قديما وحديثا، ط 3، صيدا 1958، ص 254.

[2] القس جبرائيل حبش (1854-1932) هو أصغر الأبناء لـ يوسف حبش: ولد القس جبرائيل عام 1854 ميلادية وتلقى علومه الدينية على يد الشمامسة والكهنة. تزوج من مريم بهنام ياكو وفي عام 1888 تمت رسامته كاهنا بوضع يد المطران (قورلس بهنام بني) أيضا البطريرك فيما بعد

وبما أن رئاسة الكهنة والشعب كانت كلها تابعة للسلطة الدينية لذلك إستلم الرئاسة في عام 1906 وذلك بعد فترة من وفاة القس ميخائيل القس موسى. (في فترة رئاسته تم إنشاء نظام الحراسات في البلدة) وبذلك احتفظ القس جبرائيل برئاسة الكهنة والشعب وأصبح يدير شؤون البلدة بالتعاون مع المختار ووجهاء البلدة من الشخصيات التي كانت معروفة آنذاك حتى وفاته في الرابع من آب 1932هو ابن يوسف حبش وأخو القس يعقوب. ولد في قره قوش عام 1854. سيم كاهنا في كانون الأول عام 1888. وخدم الرعية في قره قوش مدة اثنتين وخمسين سنة، قضى 35 سنة منها في رئاسة الكهنة والشعب. وقد امتاز بدماثة الأخلاق وطول البال والعدالة في قضائه. توفاه الله في 4 آب 1930 في شيخوخة موقرة. أنظر، كتاب (تاريخ وسير) للمطران ميخائيل الجميل.

[3] القس اسحق موشي هو ابن شمعون موشي (وهو جد راعي الأبرشية سيادة المطران مار يوحنا بطرس موشي والقس إسطيفان بن حنا زكريا) ولد في قره قوش عام 1879 وتعلم في مدرستها وتربى في العلم على يد عمه القس توما بن متي بن بولس بن القس متي موشي جد السيدة أمينة والدة المطران ميخائيل الجميل. إستعد للكهنوت في القصادة الرسولية بالموصل مدة عدة أشهر وسيم كاهنا في 15 أيار 1915 بوضع يد المطران بطرس هبرا.. أبدى نشاطا أجتماعيا وفكريا ملحوظا، وكان في الحرب العالمية الأولى مستشارا في الهيئة الاختيارية فأنقذ قره قوش بذكائه من الدمار المحتوم حين أحاطت بها مدافع القوات العثمانية عام 1918. كما أبدى همة منقطعة النظير في دعوى الأراضي بين الجليليين وأهالي قرقوش

في سنة 1950 انكسرت احدى ساقيه بالموصل وهو يتعقب قضية الأراضي المذكورة لدى المحاكم، فلازم داره حتى توفاه الله في 14 كانون الثاني 1968. موقع بغديدا هذا اليوم، الرابط: https://www.facebook.com/Baghdida.Life/

[4] رُسِم كاهنا في دير الشرفة عام 1910. أنظر، إحصاء الكهنة المتخرجين من إكليريكية الشرفة في جبل لبنان. مجلة رابطة الشرفة، الرابط:

http://alshurfeh-mag.com/احصاء-الكهنة-المتخرجين-من-اكليريكية-ا/ وتُعد إكليريكية دير الشرفة أم جميع الإكليريكيات وأقدمها في جبل لبنان. وقد أسسها البطريرك مار أغناطيوس ميخائيل الثالث سنة 1786 وافتتحها لقبول التلامذة في 14 أيلول 1787. تخرج منها حتى الآن 267 كاهناً.

[5] هو القس بهنام خزيمة من الموصل، رُسِم كاهنا بتاريخ 22 تموز 1906 في دير الشرفة – لبنان.

[6] مشكلة الموصل، ويكيبيديا-الموسوعة الحرة.
-W2W8QmhZOFZTdkR3U0JKNDE4SjV0UVhqS1JiZDg4/view?usp=drivesdk

وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925


وثيقة أثورية إلى لجنة الموصل 1925 


د. رياض السندي

-   نبذة تاريخية

نزلت القوات البريطانية ميناء البصرة في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1914، بداية الحرب العالمية الثانية التي أعلنت في 28 حزيران/يونيو 1914، وبعد أقل من شهر من إنضمام الدول العثمانية إلى جانب ألمانيا في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1914. ومُذاك اليوم، أصبح وادي الرافدين ساحة حرب دولية لصراع الدول العظمى. وإستمرت القوات البريطانية بالتقدم نحو ولاية بغداد فإحتلتها في 11 آذار 1917 بعد عدة معارك مع القوات العثمانية ودخلت باب المعظم في الرابعة مساءً، وأصدر قائد القوات البريطانية الجنرال مود بيانه الشهير في إن قواته جاءت لتحريرهم لا لإحتلالهم. وتقدمت القوات البريطانية شمالا فإحتلت كفري ووصلت إلى مشارف كركوك في آب/أغسطس 1918، وتوقفت عند هذا الحد. وأعلنت الهدنة ونهاية الحرب الكونية كما سميت آنذاك مع قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث وقّعت الدولة العثمانية المهزومة مع البريطانيين معاهدة مودروس في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1918. هذه الهدنة دعت إلى وقف جميع الأعمال الحربية بين البريطانيين والعثمانيين. بعد ثلاثة أيام، في 2 تشرين الثاني، قام السير وليام مارشال، وهو جنرال بريطاني، بغزو ولاية الموصل حتى 15 نوفمبر 1918 عندما نجح أخيراً في هزيمة القوات العثمانية وأجبرهم على الإستسلام. وفي ذات اليوم 15/11/1918 غادر القائد التركي علي إحسان باشا مدينة الموصل تاركاً وراءه وكيلاً لإدارة الشؤون المدنية الذي ما لبث أن غادر هذا الوكيل نهائياً المدينة[1]، وكان هذا آخر تواجد عثماني في الموصل التي تركوها إلى غير رجعة. لذا فإن إحتلال الموصل جاء بعد إنتهاء الحرب بأسبوعين، حيث إستغلت بريطانيا ضعف الدولة العثمانية وإنكسارها.

ومنذ ذلك التاريخ نشبت مشكلة عائدية الموصل؟ هل لتركيا أم للعراق؟ فظهرت قضية دولية سميت "قضية الموصل" Mosul Question. وهي أزمة دبلوماسية نشبت بين المملكة العراقية وجمهورية تركيا بعد الحرب العالمية الأولى حول مصير ولاية الموصل.

كانت ولاية الموصل جزءاً من الدولة العثمانية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، عندما احتلت من قبل بريطانيا. وكانت ولاية الموصل تشمل (السليمانية، أربيل، الموصل، كركوك، شهرزور، شاربازير، خانقين). وبعد حرب الاستقلال التركية، إعتبرت تركيا الجديدة الموصل واحدة من القضايا الحاسمة المحددة في الميثاق الوطني. وعلى الرغم من المقاومة المستمرة، تمكنت بريطانيا من طرح هذه القضية في الساحة الدولية، وتوسيع نطاق ذلك وصولاً إلى جعلها مشكلة حدود بين تركيا والعراق.



كان على العراق قبل أن يتقدم لعضوية عصبة الأمم أن تكون له حدود واضحة المعالم مع الدول المجاورة. لذا بدأ يعقد إتفاقيات الحدود مع الدول التي تجاوره، وكانت المشكلة تكمن في حدوده مع الدولة العثمانية التي إنفصل عنها. وكان البريطانيون يقومون بهذه المهمة نيابة عن العراق بإعتبارها دولة الإنتداب.

وفي 24 تموز 1923 تم التوقيع على إتفاقية لوزان والتي حددت ما يعرف ب (خط بروكسل) كخطٍ فاصل بين حدود العراق وتركيا. ونصت المادة الثالثة من الإتفاقية، على ما يلي:

"ترسم الحدود بين تركيا والعراق بشكل ودي يتم إبرامه بين تركيا وبريطانيا العظمى في غضون تسعة أشهر.

وفي حالة عدم التوصل إلى اتفاق بين الحكومتين في غضون الوقت المذكور، يحال النزاع إلى مجلس عصبة الأمم.

تتعهد الحكومتان التركية والبريطانية على نحو متبادل بأنه ريثما يتم التوصل إلى قرار بشأن موضوع الحدود، لن يتم القيام بأي حركة عسكرية أو أي حركة أخرى يمكن أن تعدل بأي شكل من الأشكال الحالة الراهنة للأقاليم التي مصيرها النهائي. سوف تعتمد على هذا القرار."  [2]

لم يتم التوصل إلى إتفاق ودِّي بين بريطانيا وتركيا لذا أحيل هذا النزاع الحدودي إلى عصبة الأمم التي قررت تشطيل لجنة لدراسة الموضوع وتقديم توصياتها بهذا الشأن، سميت ب "لجنة الموصل". لم تكن تركيا عضواً في عصبة الأمم آنذاك، وكانت بريطانيا أحد الأعضاء البارزين والمقررين في العصبة بغياب الاتحاد السوڤييتي والولايات المتحدة. وفِي 30 أيلول 1924 قررت العصبة تعيين لجنة دولية مؤلفة من ثلاثة خبراء مجري وسويدي وبلجيكي لدراسة المشكلة من جميع وجوهها وتقديم توصيات في هذا الصدد.

وصلت اللجنة بغداد في كانون الأول 1925 وبعد اتصالات دامت أكثر من شهرين عادت بتقرير مفصل أهم ما فيه:

1. خط الحدود المقترح من قبل بريطانيا بين العراق وتركيا والمعروف بخط بروكسل هو خط مناسب.

2. سكان المنطقة هم من الأكراد والعرب على مختلف طوائفهم.

3. كانت المنطقة تحت الحكم التركي عدة قرون ولكنها كانت تحكم منذ أمد بعيد من قبل باشوات بغداد.

4. الاعتبارات الاقتصادية تدعو لضم المنطقة للعراق.

5. سياسياً، إن المنطقة تركية إلى أن تتنازل عنها، وأكد هذا البند أنّ العراق لا يستطيع أن يتطور وينمو نمواً طبيعياً إِلَّا بضم ولاية الموصل، وأوصت اللجنة بعدم تقسيم المنطقة بين الطرفين بل أوصت بضمها إلى العراق بشرطين:

1. أن يبقى العراق تحت الانتداب البريطاني لمدة 25 سنة.

2. أن تُراعى مصالح الأكراد في الشؤون الإدارية.

عيّن مجلس عصبة الأمم لجنة تحقيق والتي أوصت بأن تعود ملكية الموصل إلى العراق، فأُجبرت تركيا على قبول القرار على مضض من خلال التوقيع على معاهدة الحدود مع الحكومة العراقية في عام 1926. قام العراق بمنح إتاوة 10 في المئة من الودائع النفطية في الموصل إلى تركيا لمدة 25 عاماً. وقد تنازلت تركيا عن ذلك البند لاحقاً مقابل استلام مبلغ 500,000 جنيه إسترليني ذهب، دفعة واحدة.



-   موقف العراقيين من الإستفتاء على الموصل

أدارت بريطانيا بمساعدة حكومة العراق العربية الفتية منذ عام 1921 قضية الموصل بدبلوماسية فائقة، وساعدها كثيراً أهل الولاية من مختلف الطوائف وفي مقدمتهم المسيحيين الذين عانوا كثيرا من قساوة العثمانيين وإنتقامهم خلال الحرب العالمية الأولى الأربع، والتي عرفت ب "مذابح سيفو" نسبة إلى إستخدام السيف في قتل الضحايا. وطلب ملك العراق فيصل الأول إستقبال لجنة الموصل التابعة لعصبة الأمم بما يليق بها من إحترام، وإبداء أرائهم في ضم ولاية الموصل لدولة العراق الحديث في زيارته التاريخية لمدينة الموصل عام 1924. "وتضامناً مع الحركة الوطنية، فقد أكد الملك فيصل على عروبة الموصل أثناء زيارته لها، إذ القى خطاباً، أعلن فيه إن ولاية الموصل جزء لا يتجزأ من العراق، ولن تستطيع حكومة بغداد أن تعيش يوماً واحداً بدونها، وأكد أن لمشكلة الموصل علاقة بالسلام في الشرق كله، وأعرب عن اعتقاده بطمع الأتراك بنفط الولاية ومعادنها، ورجا أن يكافح سكان الموصل لاستقلال العراق التام ومن ضمنه الموصل." [3]

في 30 أيلول 1924 قررت عصبة الأمم، تأليف لجنة دولية لبحث مسألة الموصل، وعلى هذه اللجنة أن تقدم الى مجلس العصبة كل المعلومات والاقتراحات الخاصة بقضية الموصل والتي تساعد المجلس على إصدار قراره. وقد وصلت اللجنة الى الموصل في 27 كانون الثاني 1925 وبدأت أعمالها على نطاق واسع. وإتخذت من قصر الشربتي في المدينة مقراً لها.

‏من الطبيعي أن يحدث انقسام بين أهالي ولاية الموصل عند قدوم اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) بسبب اختلاف السكان وأوضاعهم الاجتماعية. فمنهم من كان يريد الرجوع إلى الحكم التركي بدافع الدين الإسلامي ورفض حكم الإنكليز غير المسلمين. أما الأقليات (المسيحية واليهودية) فكانت تصِّر على عدم العودة للحكم التركي الديني.

فسَارع المسيحيون من الأثوريين والكلدان والسريان والأرمن إلى كتابات عرائض تفيض بعذاباتهم من تصرفات العثمانيين وإنتهاكاتهم لحقوقهم، فحسموا أمرهم في البقاء تحت سلطة بريطانيا بإعتبارها دولة مسيحية. "وقد اجتمع رؤساء الدين من مسلمين ومسيحيين ويهود فقابلوا أعضاء اللجنة وكلفوا القس (المطران فيما بعد) يوسف غنيمة بأعداد كلمة للمناسبة بالعربية والفرنسية، فلبّى طلبهم وجاء في نص الخطاب: 

يتشرف رجال الدين من مسلمين ومسيحيين وموسويين أن يرحبوا بقدومكم الميمون إلى حاضرتنا يا رجال لجنة العصبة الأممية الكرام، وان يبرزوا لكم أخص عواطف احترامهم الصميمي.

بديهي أن إيفادكم من عصبة الأمم مطمح أنظار العالم وناشرة ألوية العدل والقائمة بكشف ظلامة الإنسانية فهو دليل واضح عما لكم لديها من المنزلة الرفيعة والثقة التامة، وهذا ما يشدد عزائمنا ويوطد أركان آمالنا ويوطن أنفسنا على أن قضيتنا العادلة والحيوية معاً قد عنى بأمرها إلى أبناء جلدتها وقد أعطى السهام باريها.  نحن أيها السادة الفِخام بصفتنا من رجال الدين في مدينة الموصل ومجاوراتها واقفون وقوفاً تاماً على روحية قاطني الحدباء وعلى حقيقة مشاعرهم وعواطفهم الثابتة.

إن أهالي الموصل أيها الكرام لا يبتغون إلا أمراً واحداً هو في غاية الأهمية وهو محط آمالهم الوحيد وضالتهم المنشودة وما ذلك الأمر الوحيد إلا الحياة. والحياة من لا يبتغيها ناشدتكم الله؟ أفتعجبون أيها الكرام إذا ما طالبكم اليوم الموصليون بلساننا بالحياة وما الحياة في كل اتساع معانيها سوى حق طبيعي لكل امرئٍ به وبه وحده يقر عيناً وينعم بالاً؟ اجل إن أهالي الحدباء ينشدون الحياة، حياة حرة لا تشوبها شائبة، حياة لا تمس فيها حرمة الأديان ولا كرامة العوائد وقومية الأخلاق. وصفوة القول إنهم يبتغون أن يعيشوا تحت ظل لواء قوميتهم العربية في ظل دائرة استقلالهم القومي." [4]

أما العرب فقد كان سُنّة الموصل قوميون حد النخاع، وأرادوا ضم الموصل للعراق تخلصاً من العنصرية الطورانية التركية، والإنضمام لدولة عربية يرأسها ملك عربي.

في حين إلتزم الأكراد الذين كانوا يسكنون مناطق شمال وشرق الموصل بالصمت، فقد كانوا يسعون لإقامة دولتهم الكردية، ولم تكن علاقتهم مع سلطات الإحتلال البريطاني قد تحسنت بعد، فالمجتمع الكردي مجتمع متدين، وكانت تربطه بالعثمانيين صلة الدين والولاء لأولي الأمر من المسلمين. وكانت الحركات القومية تثور بين آونة وأخرى، مثل ثورة الشيخ محمود الحفيد عام 1919، كما قتلوا عدد من المندوبين البريطانيين لديهم، ولكنهم أثروا الصمت وتفضيل البريطانيين على الأتراك، أملا في تحقيق بريطانيا لوعودها لهم بإقامة دولتهم الخاصة، ولم يشعروا بأنهم جزء من دولة يحكمها العرب إسمها العراق حتى يومنا هذا. وبدا موقفهم هذا بمثابة قبول ضمني لضم الموصل إلى العراق. لذا فقد كتب اللجنة في تقريرها قائلة: "لقد وجدنا بين الأكراد وعياً قومياً متنامياً، وهو بلا ريب قومي كردي وليس عربياً، وهو شعور متزايد بقوه كلما اتجهنا جنوباً ويتناقص شمالاً ويتلاشى في سهل ولاية الموصل وجبال (عقرة / آكري)". وهكذا اعتقد المجلس (عصبة الأمم) أن الأكراد ككل لم يحركهم التضامن القومي. أما إذا أخذت المسألة الاقتصادية بنظر الإعتبار، فيمكن أن تكون ولاية الموصل ضمن حدود الدولة العراقية. ولكن في هذا الوقت وقعت حادثتان في تركيا قوضتا، وعل نحو خطير، المعسكر الموالي للأتراك في ولاية الموصل. ففي آذار/مارس 1924 ألغت أنقرة الخلافة العثمانية (الإسلامية) متنكرة لآخر حلقة مهمة بين المواطنين المسلمين السابقين للإمبراطورية العثمانية وتركيا. وفي كردستان تركيا أندلعت ثورة الشيخ سعيد بيران، وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه اللجنة تقوم بتحرياتها تم قمع هذه الإنتفاضة الكردية، وقام الأتراك بتهجير قرى كردية بأكملها عنوة من مناطقها الأصلية الكردية. [5]

 ومن البديهي أن يقف يهود العراق والموصل خاصة إلى جانب الإقتراح البريطاني والعربي تخلصاً من تمييز الأتراك لهم على أساس ديني. وتفضيلا للإنتداب البريطاني على العراق، إسوة بالمسيحيين.

 أما شيعة العراق فقد عارضوا الإحتلال البريطاني في البداية وأشعلوا ثورة العشرين عام 1920 المعروفة، إمتثالا للإجتهاد الديني بوجوب نصرة المسلمين الأتراك ضد البريطانيين الكفار، إلا إنهم رضخوا في النهاية لحكم ملك عربي، وقبلوا بدولتهم الجديدة بحكم الواقع.

وبقي أخيراً من أكثر المعارضين لضم الموصل لدولة العراق وسلخها من تركيا هم أتراك العراق الذين تجمعهم وشائج قوية بالأتراك على أساس العنصر واللغة والدين والتاريخ والمصالح المشتركة، ولكن قلتهم وضعف نصيرهم العثماني جعلهم في موقف غير مؤثر ولا يؤخذ بالحسبان.

والخلاصة، "ففي استفتاء 1921 تبين أن غالبية العرب في الموصل، التي يقطنها أيضاً الأتراك والكرد والأثوريون النساطرة وطوائف مسيحية أخرى، فضلاً عن الايزيديين واليهود، كانت ترغب في ضم الموصل إلى العراق. ووقف الموقف نفسه الإيزيديون واليهود والمسيحيون والأكراد (عدا سكان تلعفر). وبناء على ذلك رأت لجنة التحقيق أن من الملائم ضم ولاية الموصل إلى حكومة الملك فيصل، ورفعت رأيها ذلك إلى مجلس عصبة الأمم الذي أحال التوصية إلى محكمة العدل الدولية لإبداء الرأي في 23/9/1925. وفي 21/11/1925 اجتمعت محكمة العدل الدولية وقررت منح الموصل للعراق. وفي 16/12/1925 أقر مجلس عصبة الأمم اعتبار الموصل جزءاً من العراق. واضطرت تركيا إلى الموافقة على الضم في 7/6/1926 لقاء حصة من النفط". [6]



-   الدور المسيحي في تقرير ولاية الموصل

كان الكلدان وهم جماعة إنشقت عن الكنيسة الشرقية (الأثورية) قبل نحو خمسة قرون، بسبب الخلاف على مبدأ الوراثة البطريركي، قد إعتنقت المذهب الكاثوليكي وتبعت روما، تتصرف بعقلانية أوربية، لذا كانت أكثر ميلاً لحكومة عربية تحت سلطة دولة مسيحية عظمى هي بريطانيا، وقد أبرق رؤساء الطوائف المسيحية إلى قداسة البابا وكرادلة لندن وبروكسل وفينا وبودابست يحتجون على مطالب الأتراك اللاشعبية ويستنجدون بهم لدى عصبة الأمم لصيانة ولاية الموصل لأن الموصل هي الملجأ الوحيد لعشرات الآلاف من مهاجري مسيحيي العالم الشرقي. (صحيفة العالم العربي في 3 شباط 1925م).

وذكرت جريدة العراق؛ التي يُصدرها صحفي مسيحي[7]؛ أن اللجنة افترت على النصارى واليهود بقولهم إنهم يفضلون الحكم التركي على الحكم العراقي من دون الانتداب، وأكدت أن نصارى العراق كلهم بقلب واحد يفضلون البقاء مع إخوانهم المسلمين العرب مهما كان مصيرهم ويفضلون أن يموتوا بين إخوانهم المسلمين العراقيين ومع العرب وبيدهم؛ عن أن يعودوا الى براثن النمر التركي الضاري الذي لا يروى دم جشعه. وأكد ساسون حسقيل وزير المالية العراقية وهو يهودي أن الموصل عربية وأن نواب ولاية الموصل وأعيانها يرغبون في البقاء في العراق. وقد أرسل رؤساء المسيحيين واليهود برقيات إلى الملك فيصل وإلى المندوب السامي البريطاني في العراق وإلى رئيس الوزارة العراقية وإلى عصبة الأمم يحتجون وينكرون ما نشر عنهم في تقرير اللجنة عن رغبتهم في الرجوع إلى تركيا ويصرحون بأنهم عرب ويريدون أن يعيشوا تحت العلم العراقي العربي مع إخوانهم المسلمين. وقد وقع على هذه البرقيات مطران السريان الكاثوليك ومطران السريان اليعاقبة ومطران الكلدان ونائب البطريرك وقس الأرمن وحاخام اليهود وغيرهم من الأطــــباء والمحامين والقسس من المسيحيين واليهود. (جريدة العالم العربي، في 4 أيلول 1925م). وأرسل رئيس بلدية الموصل ورئيس بلدية أربيل وبطريرك بابل ومطران اليعاقبة وحاخام اليهود برقيات شكر إلى وزير المستعمرات البريطاني ليوبولد إيمري. [8]

وبإختصار شديد كان القرن العشرين هو قرن القومية العربية وثورتها التي قادها الشريف حسين شريف مكة عام 1916، بعد أن نبَّه البريطانيون المسلمين العرب إلى إن الأتراك ليسوا من آل بيت رسول الإسلام، وهم ليسوا بعرب ولا يمتون بصلة لقريش التي حملت الخلافة الإسلامية إلى العالم، بعد أن خضع لهم العرب قرابة سبعة قرون.

كانت إحدى الجوانب الرئيسية في المشكلة تكمن في المناطق التي كان يسكنها الأثوريون في جولاميك بحكاري، والتي يرغبون في العودة إليها. إلا أن بريطانيا واجهت صعوبات جمة في ذلك، فالقوات البريطانية لم تصل إليها لتحتلها وتفرض الأمر الواقع، وكانت تركيا ما تزال تسيطر عليها، وعيون بريطانيا ترنو إلى الموصل الغنية بالنفط بدلا من مناطق جبلية تضم قرى بائسة مشحونة بذكريات أقلية (الأثوريين).

أما الأثوريين فكانت ذاكرتهم مشحونة بإنتقام الأتراك وقسوتهم حتى الأمس القريب، وما تحملهم لكل تلك الخسائر وإنضمامهم إلى قوات الحلفاء والقتال إلى جانب بريطانيا العظمى كحليف صغير، سوى لتحقيق هدف استعادة مناطقهم والعودة إليها، إلا إن مناطقهم وقراهم وأراضيهم الزراعية وكنائسهم التاريخية ما زالت بيد الأتراك، وقد جرى هدم غالبيتها إنتقاماً من موقف الأثوريين السياسي المتمرد على الدولة العثمانية. لذا فقد تنازعتهم رغبتين متعارضتين هما: التخلص من الحكم التركي المسلم أولاً، والعودة لمناطقهم التاريخية شمال ولاية الموصل التي عاشوا فيها طيلة خمسة قرون ثانياً، شريطة أن تكون تحت حكم دولة مسيحية عظمى. وهاتان الرغبتان كانتا شبه مستحيلة، وتحقيقهما معاً ضرب من الخيال.

كان البيت الأثوري يعاني من الإنقسام والضعف. فمن جهة كان القيادة الدينية ممثلة بالبطريرك الأثوري إيشاي مار شمعون ذي 16 ربيعاً الذي سافر إلى بريطانيا لإكمال دراسته الدينية هناك. وكانت العائلة البطريركية قد إحتكرت التعاون مع البريطانيين لصالحها بعد التخلص من خصمها العنيد قائد القوات الأثورية الجنرال أغا بطرس حيث نفته بريطانيا إلى فرنسا عام 1921، ومات هناك في 1932، والذي جمع في شخصه أمرين مهمين هما: الأول، إنه كان أول من أدرك خداع البريطانيين، لذا أصَرّ على العودة إلى مناطقهم الأصلية، وثانيا، إنه كان يفصل بين الدين والسياسة، فيطلب تحديد صلاحيات البطريرك بالمسائل الدينية فقط، على أن يترك المسائل السياسية والعسكرية لغيره من المدنيين ، ولخَّص موقفه هذا بعبارة وجيزة شهيرة، قالها للبطريرك السابق بنيامين مار شمعون وهي: (ليكون لك الصليب، ودَعْ السيف لي). إلا إن البطريرك رفض ذلك، ودفع حياته وحياة رفاقه ثمناً لعدم تقبل تلك الفكرة، عندما ذهب في 3 أذار 1918 ليتفاوض مع إسماعيل آغا المعروف ب (سمكو) رئيس عشيرة الشكاك الكردية في إيران فقتله هو وحاشيته ومَثّلوا بجثته.

إعتقد الأثوريون بأن بريطانيا ستجعل مناطقهم التاريخية ضمن الدولة العراقية الجديدة، أو تحت حمايتها في الأقل، بينما كانت بريطانيا تقدّم مصالحها في أية مفاوضات مع الأتراك. وكان نفط الموصل هو المعبود الذي يصلّون له في الخفاء. بينما كانت عصبة الأمم ولجنة الموصل ترى إن المنطقة موضوع الخلاف كانت "مسكونة من قبل المسيحيين والأكراد والعرب والأتراك واليزيديين واليهود حسب الترتيب العددي"، وحيث إن رأي المواطنين كان عاملا مهما في تقرير مصير ولاية الموصل، فان الوجود الأثوري (الذي مثّل معظم المسيحيين) ورغبتهم المطلقة لإلحاقهم بالعراق تحت انتداب العصبة كان العامل الأهم لضمان ضم ولاية الموصل إلى العراق. حقا، إن توصية المفوضية بضم ولاية الموصل الى العراق، والتي اشترطت استمرار انتداب العصبة، كانت مطابقة تماما لرأي الأثوريين المقيمين في تلك المنطقة".[9]



-   رسالة الأثوريين إلى لجنة الموصل

من بين الرسائل التي يحتفظ بها أرشيف الأمم المتحدة، عثرنا على رسالة كان قد أرسلها الأسقف يوسف خنانيشوع خال البطريرك الأثوري إيشاي مار شمعون وعدد من رؤساء العشائر الأثورية [10] إلى لجنة الموصل مكتوبة بخط اليد وباللغة السريانية ومؤرخة في 2 أذار (بالتقويم الشرقي) أي 16 آذار (بالتقويم الغربي) 1925، وقد قُمنا بترجمتها من السريانية، وهذا نصّها:

أصحاب السعادة رئيس وأعضاء لجنة عصبة الأمم

إسمحوا لنا أن نبين لسعادتكم أحوالنا بإيجاز.

لقد كتب الكثير من الكتاب عن تاريخ القديم للأثوريين، وما زال الكثيرون حتى هذه الأيام يكتبون عن ذلك.

نحن قسم صغير من الأثوريين الذين أقاموا في كردستان لقرون عديدة وسط صعوبات جمّة، وتضحيات دائمة بالأنفس، تمكننا أن نحافظ على وجودنا. ولقد ظُلِمنا كثيرا من الترك وأداتهم الكرد، لسبب واحد هو للقضاء على إسمنا وكياننا.

وقبل الحرب العظمى، حُوِلَت العديد من كنائسنا إلى مساجد، والكثير من قُرانا وأملاكنا أنتُزعت من أصحابها وأعطيت للأغوات الأكراد: ونتيجة لحالات القمع العديدة بالمئات: فقد هجر الآلاف لقُراهم، وهربوا إلى روسيا ودول أخرى طلباً للحماية.

وعند إندلاع الحرب العظمى في كانون الأول/ديسمبر 1914، إستعد الأتراك بكل ما أمكنهم لتدمير أمتنا بالكامل. ابتدأوا من الباق، وگاوار، وفي كل مناطق الجبال المسيحية التي أقاموا فيها، بالقتل والفناء وأعمال أخرى لإستعبادنا. ونحن بدورنا سعينا بكل ما هو ممكن لحماية أنفسنا وبيوتنا. ولكننا أصبحنا متروكين على قمم الجبال، حيث حصرنا أنفسنا، نعاني من نقص الغذاء والبرد القارص. وبمشقّة بالغة للحياة، وجدنا طريقنا إلى إيران، وهناك وجدنا خلاصنا تحت حماية الروس الذين كانوا في ذلك الوقت يحتلون البلد.

وبعد الإضطرابات في روسيا، إنسحبوا من هناك، وبقينا نحن مضطرين في إيران: فقام الأتراك مجدداً بالهجوم علينا. فخرجنا من إيران بصعوبة كبيرة خسرنا فيها ألاف الأرواح، وبقينا شهراً كاملاً في سفرنا، حتى عثرنا على الأمان بالقرب من الإنكليز.

وعند وصولنا إلى بعقوبة تحت رعاية بريطانيا العظمى، قامت بترتيبات مذهلة ومعاملة طيبة تجاهنا، لا يمكن نسيانها.

ومنذ وقت وصولنا إلى بعقوبة، لم ننفك عن مطالبتنا بمواطننا في جولامرك، وديز، وديز العليا، وشمزدين، وتياري، وتخوما، وجيلو، وباز، ودياز – وأن توضع تلك المناطق تحت حماية بريطانيا العظمى، ولكن طلبنا لم يلقِ أي عناية. وخلال السنوات الأخيرة، عاد قسم صغير منَّا إلى مناطقه في تياري وتخوما: وبصعوبة بالغة جداً، عمّروا بيوتهم وكنائسهم وحرثوا مزارعهم، وفي السنة الماضية، تم طردهم مجدداً من بيوتهم، وهم الآن يعيشون في الكهوف والقرى المهجورة في ظروف بائسة للغاية.

نحن الأثوريون لقد وصلنا إلى يأس عميق: ولكن قدوم لجنتكم إلى هذه النواحي قد أبهجنا، مع أمل جديد، لكي نضع أمامكم أحوالنا الشقية. لأننا نؤمن بأن عصبة الأمم قد أسست لرعاية وضمان حقوق الأمم الصغيرة التي نالها العذاب. والآن، نحن نطالب عصبة الأمم، بأن تتخذ إجراءً رسميا تضع فيه، مناطقنا المذكورة في أعلاه والتي هي مواطننا منذ قرون، تحت رعاية عصبة الأمم لحمايتها. وإذا تعذر ذلك، فإننا على أمل أن تضعنا عصبة الأمم تحت حماية بريطانيا العظمى، لنتمكن من العيش بسلام وأمان. وإذا ما أنتزعت منَّا مواطننا وأعطيت لتركيا، فإنه ليس بإمكاننا العيش في العراق بسبب حرارة الطقس.

آنذاك، نطلب بأخذ تعويضات من تركيا عما استحوذت عليه، وما فقدناه في مواطننا، ونحن سنرحل من هذا البلد إلى أماكن أخرى حيث يمكننا أن نحفظ حياتنا ووجودنا، ونعمل بسلام. لأن العيش بأسلوب التهجير المرتقب هو بحد ذاته بؤس وشقاء عظيمين.

كتب في مدينة الموصل بتاريخ 3 آذار 1925 م.

تواقيع: ميطرابوليط يوسف خنانيشوع، الأسقف زيا سركيس – أسقف جيلووباز، ملك شمزدين، ملك إسماعيل، عبد الأحد م. يوسف، ملك خمو، ملك وردا، قاشا أورارهم، قاشا كينا كورئيل، الكسندروس دقليتا، الشماس إسحق أشيتا، خيو عوديشوع، بوكو أوشانا، يعقوب ... (الأسم الثاني غير واضح).



-   الموقف الأثوري من قضية الموصل

كما أسلفنا، فأن وضع الأشوريين كان يعاني من إنقسام داخلي عميق. لذا فإن موقفهم تجاه قضية الموصل كانت تحكمه ثلاثة إتجاهات متعارضة، كالأتي: -

أولا. كان الإتجاه الأول، والذي يمثل أغلبية الأثوريين، يرمي إلى العودة لموطنه الأصلي الذي غادروه أواخر عام 1915، حيث هناك قراهم ومساكنهم وحقولهم، بالإضافة إلى كنائسهم التاريخية منذ قرابة خمسة عقود. ويمكن تسميته ب (حلم العودة). وكان القائد العسكري آغا بطرس إيليا من أكثرين الساعين لتحقيق ذلك الحلم، بعد أن أدرك خداع البريطانيين. وبالفعل إستطاع بعض الأثوريين التسلل إلى مناطقهم ثانية بعد غلق مخيم بعقوبة للاجئين إبتداءً من عام 1921، وأعادوا بناء قراهم ومساكنهم وبعض كنائسهم المدمرة، إلا إن الأتراك أعادوا الهجوم عليهم إنتقاما منهم على مواقفهم من الدولة العثمانية الزائلة زمن الحرب العالمية الثانية. وجرى تهجيرهم تماماً عام 1925، ولم يعودوا إليها حتى يومنا هذا، وبعد مرور أكثر من مئة عام.

ثانياً. أما الإتجاه الثاني، والذي كانت تتبناه عائلة البطريرك الأثوري مار شمعون وبعض أتباعهم الخُلَصْ، فقد كان يسعى إلى بقاء الأثوريين تحت حماية ورعاية بريطانيا العظمى التي تحالفوا معها حتى أسمتهم ب (الحليف الأصغر – Smallest Alley). إن هذه الأمنية كانت أيضاً ضرباً من الخيال، فبريطانيا دولة مُحتَلة للعراق، ثم دولة مُنتَدَبة عليه، ومن المعروف أن كل هذه الأنظمة القانونية المعروفة في القانون الدولي، لها قواعد تحكمها، وتحدد موعد إنتهائها، لذا فهي مؤقتة وزائلة لا محال، ولو بعد حين، سواء أطالت المدة أو قصرت. وهذا يدل على عدم واقعية هذا الإتجاه، وضعف الوعي السياسي والقانوني لأصحابها، إضافة إلى تغليب المصالح الضيقة على المصالح القومية العامة. وكان أصحاب هذا الإتجاه غالباً ما يقترحون حلولاً بديلة لا منطقية، مثل اللجوء إلى الإنتداب الفرنسي أو إي دولة أخرى إذا تعذر الحل الأول. وهو يمثّل بحد ذاته خروجاً من حفرة للوقوع في حفرة أكبر.

ثالثاً. وبقي الإتجاه الثالث والأخير، والذي يمثل الإتجاه الوطني، لنسبة لا بأس بها من الأثوريين الذين تصرفوا بواقعية سواء أثناء عودتهم إلى مناطقهم في تركيا، أو بعد طردهم من هناك، حيث أدركوا إن حلم العودة أصبح مستحيلا، وعليهم القبول بالأمر الواقع الذي يفرضه الواقع السياسي الجديد، وإن مصلحتهم تكمن اليوم في البقاء مع العراق وإتخاذه موطناً بديلا لهم. وكان يتزعم هذا الإتجاه أحد أبرز قادة العشائر الأثورية وأتباعه، وهو ملك خوشابا ملك إسماعيل، رئيس عشيرة تياري السفلى، ورَفيق نِضَال أغا بطرس. وكان هذا الإتجاه هو الأكثر واقعية في المسألة الأشورية.



-   تحليل الرسالة

إن قراءة متأنية لهذه الوثيقة تقود إلى جملة إستنتاجات منها:

1.     إنها مقدمة من عائلة البطريرك الأثوري مار شمعون وبعض الموالين لها.

2.     إنها تستند على خلفية تاريخية من العلاقة السيئة مع الأتراك والأكراد، مما دفع مقدموها إلى الإرتماء في أحضان البريطانيين دون التنبه إلى إن البريطانيين لا يختلفون عن الأتراك كثيراً سوى في إسلوب العمل، فالأتراك إستندوا على الدين، بينما إستند البريطانيون على المال. والنتيجة واحدة وهي ضياع الأثوريين وتشتتهم.

3.     إن الحلول المقدمة غير واقعية، مثل البقاء تحت حكم بريطانيا أو أي دولة مسيحية أخرى، وعدم العودة تحت الحكم الإسلامي، ولكن البقاء تحت حكم القانون هو الأفضل، وهذا ما لم يهتدوا إليه في حينه.

4.     نية مقدمي الرسالة في الرحيل من العراق مسبقاً. وعدم الرغبة في البقاء في العراق بسبب حرارة الطقس. وهذا سبب غير منطقي في السياسة.

5.     تشكل مسألة المطالبة بالتعويضات أساسا قانونياً مقبولا حتى يومنا هذا، وكان بالإمكان الإصرار عليه بشكل دائم.

6.     وتبقى لغة الكتابة وأسلوبها وتنظيمها ما يدفع لإهمالها وعدم العناية بها، وعلى الرغم من ذلك، فقد كتبت باللغة السريانية، وقامت سكرتارية عصبة الأمم بترجمتها إلى الإنكليزية. بينما كتب وكيل البطريرك الكلداني يوسف غنيمة رسالة نيابة عن البطريرك يوسف عمانوئيل إلى لجنة عصبة الأمم في قضية الموصل باللغة الفرنسية، وبلغة وجيزة وخط يد أنيق. [11]

وبهذا الصدد، يذكر يوسف ملك خوشابا في كتابه حقيقة الأحداث الأثورية المعاصرة، عن حيثيات تقديم هذا الطلب إلى لجنة عصبة الأمم، قائلا: -

" في سنة 1925 جاءت لجنة الأمم إلى الموصل وإجتمعت بممثلي الأثوريين في قصر الشربتي، فبينت لهم بأنها مخوّلة بإسكانهم في أراضيهم الأصلية إلا إنها لا تملك صلاحية تقرير الدولة التي ستكون تلك الأراضي خاضعة لها. وأوضح ملك خوشابا ومن شاركه رأيه لتلك اللجنة بأنه لا أهمية لمن سيحكم تلك الأراضي طالما كان ذلك خارج إرادتهم، وغنما ما يهمّهم هو إعادتهم إلى أراضيهم وتأمين سلامتهم ومستقبلهم. أما أتباع المار شمعون فصرحوا بأنهم لا يريدون تلك الأراضي ما لم تكن نحت ظِل العلم البريطاني. ولذا لم تتمكن اللجنة من إتخاذ أي قرار حول الموضوع بسبب الإختلاف في أراء الأثوريين حول إعادتهم إلى أراضيهم تحت أي حكم تقرره عصبة الأمم. ونتيجة لهذا الخلاف حاولت العشائر العبور إلى مناطقها الأصلية عبر حدود العراق الشمالية إلا إن الإنكليز والمار شمعون والحكومة العراقية منعوها من ذلك. فأرسلت سُرمة خاتون المطران يوآلاها مطران برواري بالا كما أرسلت الحكومة العراقية معاون الشرطة عزرا وردة للتجول بين العشائر الأثورية ناقلين أقوال سرمة خاتون إليها بأنها ليست ضد فكرة عودتها إلى أراضيها وإنما تريد أن تضمن ملكية تلك الأراضي لها ليكون الأثوريون أحراراً فيها قبل عودتهم إليها. بهذه الكلمات المعسولة تمكنت سُرمة خاتون من إقناع الأثوريين وتخديرهم مما أدى إلى فقدانهم لفرصتهم الأخيرة في الحصول على قبول لهم مرة ثانية من قبل الحكومة التركية التي إعتبرت عملهم بعد هذا التراجع ليس إلا لعبة." [12]

كان هدف الإنكليز من الإحتفاظ بالأثوريين لغرض إستخدامهم كمقاتلين ضد بقية طوائف الشعب العراقي. و" قد أخفت عائلة المار شمعون عن جماهير الأثوريين – الهدف الحقيقي لتشكيل الفرق العسكرية والمتمثل في خدمة المصالح الإستعمارية لإنكلترا، ومن أجل ذلك نشطت سورما خانم (عمة البطريرك) في تشكيل هذه الفرق. [13]

وتثير شخصية سورما (شقيقة البطريركين بنيامين المغدور وبولص المريض، وعمّة البطريرك القاصر إيشا) الكثير من الجدل حتى يومنا هذا. فهذه الشخصية الأثورية التي عاشت قرابة 92 سنة، والتي تحكمت بمصير الأثوريين منذ عام 1915 وحتى عام 1933. فقد كانت المشرفة على مستودع الذخيرة الأثورية المستلمة من الروس في منطقة أورميا عام 1915. [14] وقد كان لها "الدور الكبير في تأسيس هذه الكتائب. إذ كان لها كما للملوك والكهنة مصلحة مادية في توسيع تشكيلات الكتائب العسكرية، حيث كانت العائلة البطريركية وكبار القادة والكهنوت يتقاضون وفق الاتفاق مع القيادة الإنكليزية حصة نقدية من مرتب كل ضابط ومجند آشوري". [15]

لقد بلغ تعداد الكتائب الأثورية 10 آلاف مقاتل، وقد كان المقاتل يتقاضى 12 روبية شهريا عام 1920، ولو إفترضنا إنها كانت تتقاضى 2 روبية عن كل مجند أثوري، فهذا يعني إستلامها (2000) ألفي روبية شهرياً، وهي لا تساوي سوى مبلغاً ضئيلاً من نفط الموصل وحياة الأثوريين.



-   بريطانيا ... وتقسيم غنائم الموصل

" بعد توقيع إتفاقية الصلح الحكيم في عام 1918م لم يكن لدى تركيا المكلفة بحَلِّ جيشها وكذلك إيران القوة الكافية لإعاقة عودة الأثوريين إلى ولاية هكاري ومقاطعة أورمي." [16]

كانت بريطانيا غير راغبة في التخلي عن الأثوريين تماما، وترغب في الإحتفاظ بهم كحزمة واحدة، بل تسعى للإستفادة القصوى منهم، وكانت في الوقت ذاته ترغب في التنصل من وعودها لهم، والتقليل من نفقاتها عليهم. لذا فقد كان لها دور في إعادة الأثوريين الذين عادوا متسللين إلى مواطنهم في تركيا للفترو من عام 1921-1925. وجرياً على ذلك، فقد فسَّر بعض الأثوريين محاولة إغتيال وأسر الوالي التركي لجولامرك أثناء زيارته لهم عام 1924 على يد بعض المقربين من مار شمعون، بأنه كان بدفع من الإنكليز.[17] ورداً على ذلك، "بدأ الأتراك مطاردة الأشوريين من قراهم في هاكاري وأزاحوهم إلى العراق، وقد وصل آنذاك ما يقارب 8 آلاف إنسان أشوري." [18]

 وربما كان القصد لذلك هو أن يكون الأثوريين بمجملهم ورقة رابحة بيدهم لتقرير عائدية الموصل للعراق والإستفادة من وارداتها النفطية بدلاً أن تكون بيد تركيا الحديثة، بدليل أن قرار عصبة الأمم حول عائدية الموصل للعراق ينصّ على أن يقوم العراق بمنح نسبة 10 في المئة من الودائع النفطية في الموصل إلى تركيا لمدة 25 عاماً. وقد تنازلت تركيا عن ذلك البند لاحقاً مقابل استلام مبلغ 500,000 جنيه إسترليني ذهب، دفعة واحدة. وهكذا باعت تركيا الأثوريين العائدين مقابل 10% من نفط الموصل لمدة 25 عاماً، أو مقابل نصف مليون جنيه إسترليني ذهباً. وكسبت بهم بريطانيا الملايين من نفط الموصل لمدة تزيد على 25 سنة.

وكانت بريطانيا قد أستطاعت قبل ذلك من إقناع فرنسا بتنازلها عن الموصل التي كانت من حصتها وفقاً لتقسيمات خارطة سايكس – بيكو 1916. ووافق كليمنصو على طلب لويد جورج نقل الموصل إلى سلطة الانتداب البريطاني بشرط أن تنال فرنسا حصة من نفط الموصل، وأن توضع دمشق وحلب وبيروت والإسكندرونة تحت سلطة الانتداب الفرنسي. وهذه الوقائع تؤكد أن بريطانيا وفرنسا اعتبرتا سورية والعراق أسلاباً يوزعونها حصصاً كما توزع المغانم. وفي 24/7/1923 وُقعت معاهدة الصلح بين الحلفاء وتركيا (معاهدة لوزان) التي نصت على تعيين الحدود بين العراق وتركيا خلال تسعة شهور بالتفاوض الثنائي، وإذا لم يتم التوصل إلى اتفاق في هذا الشأن خلال المهلة المذكورة، فيُرفع الأمر إلى مجلس عصبة الأمم. ولما لم يتم التوصل إلى أي تفاهم في شأن مصير الموصل فقد قرر مجلس عصبة الأمم في 30/9/1924 تأليف لجنة تحقيق لدراسة تلك القضية.

" وقصارى القول إن النفط كان العنصر الحاسم في تقرير مصير ولاية الموصل، علاوة على الواقع الجغرافي والسكاني، وإن لم يظهر النفط في مناقشات ترسيم الحدود إلا بشكل خفي. وتبين لاحقاً أن "شركة النفط التركية"، وهي شركة دولية في الأساس ظهرت في سنة 1912 جراء اتفاق بين ألمانيا وبريطانيا وشركة دارسي للنفط على أن تكون حصة ألمانيا 25% وبريطانيا 25% وشركة دارسي 50%، قد نالت امتياز تسويق الحصص، ومنح رجل الأعمال الأرمني البريطاني الجنسية كالوست غلبنكيان 5% من الأسهم اقتطعت بالتساوي من حصة بريطانيا ومن حصة دارسي، ثم مُنحت فرنسا حصة ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب." [19]



-   خاتمة

إن الإنقسام والتشرذم وإنعدام وحدة القرار هي أهم الأمراض التي تصيب الأقليات من أمراض إجتماعية وسياسية، ويضاف إليها المصالح الشخصية الضيقة التي تقدم مصلحة الشخص على المجموع. وكما يقال فإن المصالح تبقى الصخرة التي تتحطم عليها أعظم المبادئ، ولم تكن المصالح المالية والشخصية الضيقة بعيدة عن عائلة البطريرك مار شمعون.

كانت القيادة الأشورية، قيادة دينية، وفي ظِل غياب قيادة سياسية، كانت تعاني من ضعف الدهاء السياسي في مواجهة إمبراطورية الدهاء البريطاني، ولا تجيد إدارة الصراعات مع الدول. لذا فقد جرى إستغلال هذه الطائفة لأغراض إستعمارية مقابل منافع رخيصة. وكان النفط في مقدمة تلك الأغراض وما زال حتى يومنا هذا. وكان على الأثوريين مساومة بريطانيا والحكومة العراقية الفتية في الحصول على بعض المطالب مقابل دورهم المتميز في تقرير عائدية الموصل للعراق، بدلا من الذهاب إلى عصبة الأمم للشكوى، فالعصبة أولا أخيراً إنما هي منظمة دولية تعتمد في ميزانيتها على مساهمات الدول المالية وإشتراكاتها، وتستطيع الدول أن تضغط عليها في هذا الجانب، وحتى يومنا هذا عادة ما تتلكأ الولايات المتحدة في تقديم مساهماتها المالية للأمم المتحدة لغرض فرض وجهة نظرها. كما إن المنظمات -بعكس الدول-لا تمتلك جيشاً ينفذ إرادتها وتعتمد في ذلك على الدول، لذا فمن الخطأ التعويل عليها بشكل مطلق، وهذا ما حدث مع الأثوريين لاحقاً. ونجد ذلك واضحاً في رَد البريطانيين على القائد الأثوري آغا بطرس، "عندما طالبهم بتعويضه مبلغ (38) ألف روبية إدعى إنه صرفها على حملته الفاشلة، وقد هددهم بتقديم شكوى إلى عصبة الأمم، وفرنسا، والبابا، إذا لم ينفذوا له ذلك، إلا إنه دهش عندما أجابه الإنكليز بأن عليه أن يذهب إلى هؤلاء جميعا وإلى الشيطان إن شاء." [20]

كما إفتقرت القيادة الأثورية إلى الواقعية السياسية في المفاوضات، والتي تقوم على تقليل الخسائر والحصول على المكاسب قدر الإمكان. وكان معظم الأثوريين قد إعتادوا على نمط حكم معين طبقه العثمانيين عليهم وعلى غيرهم من الجماعات والمكونات الأخرى داخل الدولة العثمانية، وهذا ما يطلق عليه الدكتور علي الوردي نمط "الحكم السائب". فقد إعتاد العثمانيون على عدم التدخل في شؤون العشائر الأثورية، وتركوا ذلك لقيادتهم الدينية الممثلة في البطريرك الأثوري الذي كان يعد -في ظل الدولة الدينية- مسؤولا أمام الخليفة أو السلطان العثماني عمّا يرتكبه أتباعه من مخالفات. لذا، فقد واجهوا مشكلة في التأقلم مع الدولة العلمانية التدخلية، وتمنّوا أن تطبق الدولة الجديدة نفس أسلوب الدولة السابقة التي هربوا منها، ويشكون من ظلمها وتعسفها. ويرى الوردي إن هذا الأمر، ينطبق على الشيعة في الأساس، فيقول: " أن الشيعة لا يميلون للخضوع للقانون [21]، ويحبذون أن يعيشوا حياتهم الخاصة التي إعتادوا عليها، حتى لو كانت في نظر الآخرين فوضى، "وكل ما يطمحون إليه هو نظام حكم يجاريهم في عاداتهم هذه، وهم لا يبالون إذ ذاك أن يكون الحاكم مسلماً أو كافراً، نجفياً، أو غير نجفي، سنياً كان، أو شيعياً. ولهذا كانوا راضين عن الحكم التركي قبل الحرب، فلم يثوروا عليه؛ لإنه تركهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم، ولم يتدخل في شؤونهم إلاّ قليلاً. ولم يكد الحكم التركي يتدخل في شؤونهم خلال الحرب حتى ثاروا عليه، وأعلنوا العصيان. وكذلك فعلوا مع الحكم الإنكليزي؛ إذ هم لم يثوروا عليه إلاّ بعد أن تدخل في شؤونهم".[22] وقد إتبع الأتراك نظام "الحكم السائب"، وكانت صلة الحكومة بمواطنيها تنحصر في أمرين فقط، هما الضرائب، والتجنيد.[23]

وقد دفع الأثوريون ثمنا باهضاً جراء تلك الأخطاء، بينما حقق البريطانيون والعرب غايتهم في ضَم ولاية الموصل إلى العراق.



د. رياض السندي

جنيف في 15 أيلول 2019





[1] د. فاضل حسين، مشكلة الموصل، بيروت 2105.
[2] Treaty of Peace with Turkey Signed at Lausanne, July 24, 1923.
[3] سفانة هزاع الطائي، الموصل عراقية.. دور الموصليين في الدفاع عن عراقية الموصل، موقع صحيفة المدى - الملاحق "ذاكرة عراقية"، في 09-07-2017.
[4] د. عبد الله حميد العتابي، الموصل بين الأمس واليوم، موقع نبراس الذاكرة، في 18/08/2014. الرابط: http://www.nbraas.com/inp/view.asp?ID=771
[5] الدكتور عبد العزيز المفتي، ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى، عمان 2014.
[6] صقر أبو فخر، بعد تسعين سنة... الموصل مشكلة تتجدد، موقع العربي الجديد، في 14 أكتوبر 2016.
[7] هو الصحفي العراقي رزوق غنّام، وكان رئيس تحريرها الصحفي روفائيل بطي.
[8] باسـم فـرات، قـراءة جديدة لمشكلة الموصل، موقع صحيفة الزمان في October 10, 2017.
[9] عصبة الأمم، تقرير لجنة الموصل، الوثيقة Doe. C-400, M. 147 (1925)، ص 52.
[10] وقّع على هذا الطلب، بالإضافة إلى البطريرك، كل من: الميطرابوليط يوسف خنانيشوع، االأسقف زيا سركيس – أسقف جيلووباز، ملك شمزدين، ملك إسماعيل، عبد الأحد م. يوسف، ملك خمو، ملك وردا، قاشا أوراهم، قاشا كينا كورئيل، الكسندروس دقليتا، الشماس إسحق أشيتا، خيو عوديشوع، بوكو اوشانا، يعقوب ... (الأسم الثاني غير واضح).
[11] في النية، ترجمة وتحقيق وتحليل رسالة البطريرك الكلداني لاحقا.
[12] يوسف ملك خوشابا، حقيقة الأحداث الأثورية المعاصرة، بغداد 2001، ص 129.
[13] يوسف مالك، الخيانة البريطانية للأثوريين، ص 193.
[14] و. أ. ويكرام، مهد البشرية – الحياة في شرق كوردستان، ترجمة جرجيس فتح الله، بغداد 1971، ص 337. وكذلك، رياض رشيد ناجي الحيدري، الأثوريون في العراق 1918-1936، الطبعة الأولى، القاهرة 1977، ص 74.
[15] قسطنطين بيتروفيج ماتفيف بارمتي، الآشوريون والمسألة الآشورية في العصر الحديث، الطبعة الأولى، دمشق 1989، ص 116.
[16] قسطنطين بيتروفيج ماتفيف بارمتي، المصدر السابق، ص 115.
[17] لمزيد من التفاصيل، أنظر، يوسف ملك خوشابا، المصدر السابق، ص ص 120-129.
[19] صقر أبو فخر، بعد تسعين سنة... الموصل مشكلة تتجدد، مصدر سابق.
[20] ويكرام، مهد البشرية، مصدر سابق، ص 365. وكذلك، رياض الحيدري، الأثوريون في العراق، مصدر سابق، ص 127.
[21] وهذا ما دفع المؤرخ العراقي الشيعي المعروف عبد الرزاق الحسني الى وصف قبائل بني إحچيم المقيمة في لواء الديوانية بأنهم (من أشجع القبائل في "الفرات الأوسط"، وابعدهم رضوخاً للسلطان الحكومي. وهذا ما يفسّر بأن عدم الرضوخ للحكومة شجاعة ما بعدها شجاعة. أنظر، عبد الرزاق الحسني، الثورة العراقية الكبرى، ط2 منقحة، بيروت 1965، ص133. وقد وصفتها المس بيل أيضاً بأنها (غير خاضعة بالمرة لأية سلطة مدنية). أنظر، المس بيل، فصول من تاريخ العراق القريب، ترجمة جعفر الخياط، بيروت 1971، ص444.
[22] د. علي الوردي، لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث، ج 5، ق2، ص334-335.
[23] د. علي الوردي، لمحات إجتماعية، مصدر سابق، ج 5، ص18.


الحمير وكلاء الله

  الحمير وكلاء الله أنا أقول دوماً ان فكرة الله هي افتراضية يفترضها البشر باعتبار ان هناك خالق لهذا الكون، اعتمادا على مبدأ ان لكل شيء سبب، ...